في اللقاء الذي سيجمعه اليوم في المختارة مع الرئيس ميشال عون، يُنتظر أن يدلي رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط بمزيد من المواقف، في اتجاه تأكيد استدارته النهائية إلى دمشق، توطئة للعودة إليها
نقولا ناصيف
على أهمية ما قاله النائب وليد جنبلاط في الشهرين الأخيرين تعزيزاً لرغبته في المصالحة مع دمشق، والعودة إلى الخيار الذي كان قد لزمه 28 عاماً لديها، فإن موعد استقباله هناك لا يزال ينتظر، على ما يبدو، بعض المواقف الجديدة. في اجتماعهما الأخير في 14 شباط، صارح الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله الزعيم الدرزي بأن ما قاله في حديثه إلى الزميلة «السفير» في 9 شباط غير كاف، وهو يعتقد أنّ هناك ما عليه أن يقوله بعد في صدد علاقته بسوريا، وأن جنبلاط يعرف كذلك ما ينبغي قوله.
لا تندرج وجهة نظر نصر الله في نطاق إرغام جنبلاط على رزمة جديدة من التنازلات الشخصية والسياسية، وهو لم يحضّه مرة عليها، ولا تحميله كمّاً إضافياً من الإحراج لدى حزبه وقاعدته الشعبية وحلفائه السابقين، مع أن الزعيم الدرزي هو الذي اختار الانفصال عن الآخرين، ولا إذلال زعامته بغية إيصاله إلى دمشق منهكاً غير قادر على أن يصبح في ما بعد حليفاً قوياً لا يُستغنى عنه، ولا استعجال انتقال زعامة البيت والطائفة منه إلى وارثه ابنه تيمور، لا تتبنّى وجهة نظر نصر الله أياً من هذه الذرائع.
في الواقع، يتوخّى الأمين العام لحزب الله تبرير حجّتين تقول بهما دمشق:
أولاهما، تيقُّن دمشق من رسوخ جنبلاط على «خيار المقاومة» الذي يحلو للمسؤولين السوريين اقتضاب التحالف معها بهذه العبارة، وعدم تنكّره له مجدّداً على نحو ما فعل بين عامي 2005 و2008، عندما جارى أحداثاً إقليمية مفاجئة، وانضم إلى خيارات سعت إلى حصار النظام السوري، والرهان على تقويضه. بعض هواجس دمشق من انقلاب على الانقلاب، مردّه إلى قول جنبلاط في عزّ المواجهة مع دمشق، إنه كذب عليها 28 عاماً، وندم على صمته على امتداد تلك السنوات، وتجَاهَلَ اغتيال والده الراحل كمال جنبلاط وضلوعها في هذا الاغتيال.
ثانيتها، تيقُّن دمشق من أن تمسّكه بخيار المقاومة يجب ألا يقتصر على المواقف المعلنة فحسب، بل يترجمه موقع الزعيم الدرزي في المعادلة السياسية الداخلية، وهو مغادرة المكان الذي حدّده لنفسه بعد 2 آب 2009، الوسطية، إلى آخر يجسّد فعلياً وإجرائياً التصاقه بالتحالف مع دمشق.
على نحو كهذا يعبر جنبلاط المرحلة الأخيرة من المطهر إلى دمشق.

نصر اللّه فقط

لم تنظر القيادة السورية بجدّية إلى استدارة جنبلاط بعد 2 آب الماضي، وظلّت تراقب باهتمام الطريقة التي كان يحاول من خلالها توجيه الرسائل إليها. بيد أن الأمر لم يكتسب صدقيّته إلا في كانون الأول الفائت، في الأسابيع القليلة التي سبقت زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري لدمشق يومي 19 و20 كانون الأول، واجتماعه بالرئيس بشّار الأسد. حتى ذلك الوقت تطوّع سياسيون كثيرون من أوزان مختلفة للذهاب إلى دمشق، ودعوتها إلى تلقّف استدارة جنبلاط، ومساعدته على العودة إلى الحضن السوري.
هاجس دمشق من تنكّر جنبلاط مجدّداً لها إذا انقلبت أوضاع المنطقة
آلت كثرة المتطوعين إلى كثرة الرسائل، ومن ثمّ إلى تخبّطها في التناقض والجدّية. بالتأكيد ذهب معظم هؤلاء إلى مسؤولين سوريين متفاوتي التأثير والفاعلية حيال الملف اللبناني، وفاتحوهم بقراءة جديدة لمواقف جنبلاط. بين هؤلاء مَن كان يكتشف أن الرسالة التي يعود بها إلى المختارة ليست ذات مغزى وغير نافعة، وبينهم مَن راح يخرّب على وساطة آخر إذ اكتشف تجاهل دمشق مسعاه.
آل تناقض الرسائل إلى بلبلة حمّلت سوريا أحياناً أكثر ممّا كانت ترسله مع هؤلاء. وفي الغالب كان المسؤولون السوريون المتفاوتو الأهمية، يكتفون بالإصغاء، ما خلا إدلاءهم بعبارات عامة إدراكاً منهم بأن الكلمة الفصل هي للرئيس فقط. كانت المستشارة السياسية والإعلامية للأسد الوزيرة بثينة شعبان بالغة الصراحة، عندما قالت بعد أول اجتماع بين الأسد والحريري في 19 كانون الأول، إن ملف العلاقة مع جنبلاط في يد الرئيس السوري وحده، وهو الذي يتخذ القرار.
في كل الجهود التي بُذلت حتى كانون الأول الماضي، كانت دمشق تجيب سائليها أنها لا تطلب أمراً محدّداً من الزعيم الدرزي، الذي يدرك تماماً ما ينبغي القيام به للعودة إلى خيار التحالف معها ومصالحة نظامها.
في تلك المرحلة، ذهب وزراء سابقون ونواب حاليون وآخرون سابقون، والتقوا مسؤولين سوريين، سياسيين وأمنيين. كانت لبعض هؤلاء الزوّار أدوار محدودة، والبعض الآخر راح يبحث عن أدوار مشابهة، باستثناء اثنين جمعتهما بالرئيس السوري علاقة مباشرة، وحدّثاه في المسار الجديد لجنبلاط، هما النائبان سليمان فرنجية، وطلال أرسلان، الذي كان سبّاقاً في السعي إلى الذهاب بجنبلاط إلى دمشق منذ 11 أيار 2008، على أثر ما حدث في الجبل بعد أحداث بيروت في 7 أيار، ثم طوى وساطته موقتاً إلى ما بعد الانتخابات النيابية في 7 حزيران 2009.
في وقت لاحق، أخطرت دمشق، بطريقة غير مباشرة، الزعيم الدرزي بأن عليه، من أجل أن ينجح في خطة مصالحته معها، اختيار قناة واحدة للتواصل مع القيادة السورية، قناة جادة لا تستخدم الضجيج والإعلام والغطرسة والادعاء، وتعتمد العمل السرّي. في ظلّ التسابق على إبراز الوساطات العلنية وسلال الرسائل، لن يُكتب النجاح لمساعي جنبلاط الذي كان قد أبلغ إلى دمشق أن قناته الموثوق بها هي الأمين العام لحزب الله، الموثوق به بدوره من سوريا، والمسموع الكلمة لدى الأسد. مذ ذاك أضحت الجهود أكثر اهتماماً وفاعلية، وطبعتها السرّية. إبّانها زار نصر الله دمشق أكثر من مرة في محاولة منه لفتح صفحة جديدة في علاقات الطرفين.
أضافت سوريا إلى عبارتها السابقة الآتي: يعرف جنبلاط تماماً ما ينبغي القيام به للعودة إلى خيار التحالف مع سوريا، ويعرف تماماً من الأمين العام لحزب الله ما يقتضي اتخاذه.
لم تلغِ قناة نصر الله وساطات مماثلة لرئيس المجلس نبيه برّي عندما اجتمع بالأسد في 7 شباط، ولا للحريري في اجتماعهما قبل شهرين، ولا لفرنجيه الذي يلتقي الأسد دورياً أكثر من مرة في الشهر.
هكذا أصبح الحوار غير المباشر مع دمشق بين اثنين فقط: جنبلاط ونصر الله.

المطهر

تتقاطع المعطيات المحدودة المصادر، المعنية بالاتصالات بين المختارة ودمشق، في الآتي:
1ـــ إنّ مصالحة جنبلاط مع الأسد والنظام السوري تحتاج إلى وقت أكبر من ذاك الذي رافق مصالحة الحريري معهما. ورغم أن رئيس الحكومة لم يستخدم العبارات القاسية والمؤذية نفسها التي ساقها جنبلاط ضد الرئيس السوري، فإنّ خطابه الحاد وتجييشه الشارع السنّي لم يكونا بنتائجهما أقل وطأة ممّا فعله الزعيم الدرزي، وخصوصاً عندما كان الحريري يتحدّث عن شنق قتلة والده الرئيس الراحل رفيق الحريري. مع ذلك حظي بأسباب تخفيفية تفهّمتها دمشق، استمدت تأثيرها تارةً من وساطة العاهل السعودي الملك عبد الله لدى الأسد لمصالحته مع الحريري بعد المصالحة السعودية ـــــ السورية، وطوراً من أن الحريري قاد قوى 14 آذار تحت وزر عدائها لسوريا من غير أن تكون بينه وبينها أزمة سابقة، ولا عرفها ولا عرف أياً من مسؤوليها، بدءاً من الرئيس. أضف أنه ابن الحريري الأب الذي قضى في جريمة بشعة.
2 ـــــ لم تنظر دمشق إلى زيارة الحريري لها على أنها رمت إلى حصولها منها على تبرئتها من اغتيال والده، بل قاربت الزيارة انطلاقاً من رغبة الحريري الابن، ومن ورائه السعودية، في تصحيح علاقة انهارت تماماً بين سوريا وشارعه السنّي، وبلغت حداً من العداء الضاري لم يشهداه منذ استقلال البلدين. أوجب ذلك إعادة الاعتبار إلى هذه العلاقة.
لم ترَ دمشق يوماً نفسها متهمة باغتيال الحريري الأب، والتحقيق الدولي والمحكمة الدولية من بعده لم يوجّها إليها أصابع الاتهام بالاغتيال. لم تغيّر من ثوابتها، وليست هي مَن اقتربت من الآخرين لمصالحتهم، وبرهنت لخصومها في المنطقة والمجتمع الدولي أنها عنصر استقرار في لبنان ومحيطه بقدر ما هي عنصر معطّل لحلول لا تأخذ في الاعتبار مصالحها ومكانتها، وتحمي نفوذها بتحالفاتها. رفضت ربط علاقتها بلبنان بقرارات مجلس الأمن، ولم تُجرِ تبادلاً دبلوماسياً معه إلا في التوقيت الذي اختارته هي بعيداً من ضغوط تلك القرارات. لم ترسل سفيرها إلى بيروت إلا بعد سبعة أشهر و11 يوماً على إعلان بدء العلاقات الدبلوماسية بينها وبين لبنان. الأمر نفسه ينطبق على ترسيم الحدود بين البلدين الذي نصّ عليه القرار 1680 في 17 أيار 2006، وكان قد نصّ أيضاً على التبادل الدبلوماسي مذ ذاك. فإذا بالحريري إبان زيارته دمشق يضع ترسيم الحدود في نطاق العلاقات الثنائية، تبعاً لرؤية متكاملة إلى العلاقات اللبنانية ـــــ السورية، لا استجابة للقرارات الدولية ولا تحت وطأة التهديد بها.
بذلك لم تقرن دمشق زيارة رئيس الحكومة اللبنانية ومصالحته الرئيس السوري بثمن سياسي مقابل، أو تنازل يقتضي تسديده له أو لشارعه العائد إليها. رحبت بحفاوة بالحريري، ونزل ضيفاً على الأسد وتحدّثا طويلاً. أما تصويب علاقات البلدين وإعادتها مميّزة، فينتظران مبادرة من الحريري حيال رؤيته إلى تلك العلاقات، قبل الخوض في التفاصيل.
متطوّعون تسابقوا على حمل الرسائل إلى نصر الله: هكذا دارت الوساطة
على نحو مماثل، مع فوارق جوهرية في جوانب مختلفة، تأتي زيارة جنبلاط لدمشق بمثابة عودته إلى ما كان عليه قبلاً لديها، انطلاقاً من المراجعة التي كان قد أتمّها في 2 آب 2009 عندما أعلن انسحابه من قوى 14 آذار. لا تعني هذه المراجعة ـــــ في دمشق ـــــ إلا تسليم الزعيم الدرزي بخطأ الخيار الذي ذهب إليه عام 2005، سواء استناداً إلى معلومات مغلوطة، أو تأثراً بتحوّلات إقليمية ودولية كان القرار 1559 أول مؤشراتها، أو نتيجة إغراءات بالرهان على ضعضعة النظام السوري ومن ثمّ إسقاطه.
أخفى هذا السبب حجّة سورية رئيسية إزاء تريّثها في استقبال جنبلاط في الأسابيع الأخيرة، وهي خشيتها ـــــ لما تلمّ به عنه إلماماً استثنائياً ـــــ من انقلابه مجدّداً عليها عند أول منعطف تقلبات أو تغييرات إقليمية، مشابهة لما حصل عام 2005. وكان الزعيم الدرزي رأس حربة مواجهة سوريا من لبنان.
3 ـــــ لا يعدو المطهر الذي يمرّ به جنبلاط قبل العبور إلى سوريا، إلا محاولة لتنقية نفسه من كل ما كان قد رافق السنوات الخمس المنصرمة. بيد أن تنقية كهذه ستؤول حكماً، بعد زيارته دمشق، إلى مرحلة جديدة، سواء في استعادة التحالف مع دمشق، أو في المواقف المتقدّمة التي سيدلي بها جنبلاط تثبيتاً لهذا التحالف. لن تكتفي المرحلة الجديدة بإخراجه من الوسطية الغامضة فحسب، ولا بازدواجية موقع نوابه ووزرائه في البرلمان والحكومة بالقول تارة إنهم جزء لا يتجزأ من قوى 14 آذار، وبالقول طوراً إنهم يلزمون الوسطية. بل بإعادة وصل الخيار السياسي بالجغرافيا.
مغزى ذلك العودة إلى العبارة المألوفة لجنبلاط التي درج على قولها سنوات طويلة منذ عام 1983 على أثر حرب الجبل سنتذاك وإخراجه القوات اللبنانية بالقوة بمؤازرة الجيش السوري والمنظمات الفلسطينية من الشوف وعاليه والمتن الأعلى، وأعاد تكرار العبارة في الأسابيع الأخيرة، وهي أنه رَبَطَ الجبل بالضاحية الجنوبية، وكلاهما بالبقاع. وهو ما استبقته سلسلة المصالحات التي كان قد أجراها تباعاً في الأشهر الأخيرة مع حلفاء دمشق. بذلك يمتدّ التحالف السياسي الأوسع مع سوريا من البقاع الشمالي إلى جبل لبنان الجنوبي والضاحية، مروراً بالجنوب، ويستريح في جبل لبنان الشمالي.
من دون هذه الخريطة، لا مغزى لانتقال الزعيم الدرزي إلى خيار التحالف مع دمشق.