لم يعد أحد يتحدث عن العدالة الاجتماعية أو تكافؤ الفرص أو سلسلة الرتب والرواتب أو الإنماء المتوازن أو الذبح المتواصل للقطاعين الزراعي والصناعي. الحلول على هذه المستويات شبه مستحيلة في ظل لامبالاة كل القوى السياسية بهذه العناوين. وحتى في حال حصول خرق ما، سيكون أشبه بإبر مورفين لا تغيّر كثيراً في الأزمة المالية التي تعانيها غالبية الأسر اليوم.
عملياً، ثمة مافيا لا تشبع، تقبض على كل أساسيات الحياة. وسواء كان أجر المواطن خمسمئة دولار أو خمسة آلاف، فإن هذه المافيا قادرة على «شفطها» بوسائل عدة:
أولاً، المواصلات. غالبية الموظفين في العالم، وخصوصاً في أوروبا، لا يستخدمون السيارات الخاصة بحكم وجود نقل عام وخاص يربط الأحياء بعضها ببعض بأسعار مقبولة. وقد اقتنع مواطنو هذه الدول، كما شرق آسيا واليابان، باعتماد الدراجات النارية الصغيرة للوصول إلى أعمالهم تخفيفاً للازدحام والتلوث وتوفيراً لثمن البنزين وكلفة الموقف. أما الحكومة اللبنانية فلا تكتفي فحسب بإهمال النقل العام وعدم استقطاب القطاع الخاص للاستثمار في قطاع النقل (عشرات الشركات الألمانية والسويدية والأميركية والروسية تتسابق حول العالم للفوز بمناقصات إنشاء سكك المترو وإدارتها) لحماية مصالح 6 أو 7 مستوردي سيارات يحتكرون الوكالات ويتحكمون بهذا السوق منذ أكثر من خمسين عاماً، بل عمدت في خطة السير الأخيرة إلى تنفير اللبنانيين من الدراجات النارية. وهي معنية، أولاً وأخيراً، بزيادة الطلب على السيارات والوقود. وفيما تصل كلفة ركن سيارة ليوم كامل في موقف في ميامي الى 5 دولارات، فإنها، في أي «باركميتر» في بيروت وجبل لبنان، لا تقل عن 8 دولارات. ويكاد يستحيل ركن السيارة أمام مطعم أو صيدلية أو أي متجر من دون أن «يُخلق»، أمامك فجأة، «فاليه باركنغ» معتذراً عن عدم قبول الخمسة آلاف ليرة لأن التسعيرة باتت عشرة! هنا، يدفع اللبناني ثمن سيارته مرتين: مرة لمعرض السيارات وثانية للمصرف. ويدفع فاتورة التصليح، بحكم الحفر والمطبات وتفلّت الكاراجات من أية رقابة، ضعفي الفاتورة في أي دولة أخرى. ويدفع ثمن الوقود مرتين: مرة ثمنه الطبيعيّ ومرة ضريبة تذهب عائداتها لخدمة الدين العام. والنتيجة: مجموع كلفة النقل التي يتكبّدها أي موظف تتجاوز 400 دولار، فيما ثمن بطاقة المترو الشهرية لأي موظف أوروبي أو ماليزي أو تونسي أقل من 40 دولاراً. لماذا؟ لأن السلطات المتعاقبة قررت ضرب النقل العام، وتكفّل الإعلام الممول من وكلاء السيارات بإيهام الرأي العام أن البريستيج يقتضي التنقل بسيارة موديل العام لا دراجة نارية أو هوائية.
ثانياً، السكن. سعر المتر في ضواحي بيروت 2000 دولار فيما هو 800 دولار في ضواحي أثينا، و1000 دولار في ضواحي برشلونة، و1300 دولار في ضواحي باريس. لا علاقة للأمر بالعرض والطلب؛ إذ إن غالبية الشقق المعروضة لا تناسب طلب الشباب. هؤلاء يريدون شقة تتراوح مساحتها بين 120 و160 متراً يمكنهم شراؤها عبر مؤسسة الإسكان التي تضع سقفاً مالياً هو 180 ألف دولار. إلا أن المقاولين يواصلون بناء شقق تبدأ مساحتها بـ250 متراً متطلّعين إلى الصيد الخليجي الثمين حصراً. وفي حال شراء شقة، سيدفع اللبناني ثمنها مرتين؛ مرة لمقاول البناء ومرة للمصرف. وما إن يدخلها حتى يكتشف أنه مضطر إلى دفع ثمن الأدوات الصحية وغيرها مرة أخرى بحكم تفلت المقاولين من الرقابة القانونية والأخلاقية. أما قطاع المفروشات فتتحكم به مافيا أخرى تمنع الشركات المخصصة لأصحاب الدخل المحدود كـ IKEA مثلاً من دخول الأراضي اللبنانية.
ثالثاً، الأساسيات. فاتورة الكهرباء فاتورتان: واحدة للحكومة وأخرى لأصحاب المولدات. مافيا أصحاب المولدات مجرد حلقة في مافيا شركات النفط التي ستخسر الجزء الأكبر من أرباحها في حال انتفت الحاجة إلى المولدات. فاتورة المياه ثلاث: واحدة سنوية للحكومة وثانية شهرية لأصحاب السيترنات وثالثة يومية لشركتي صحة وتنورين وأخواتهما. أي أسرة تريد الاطمئنان إلى ما تشربه ستدفع مئة دولار شهرياً ثمن مياه شفة، فيما يشرب معظم سكان العالم من الحنفيات. فاتورة الاتصالات فاتورتان بحكم انقطاع الاتصال كل دقيقة مرتين أو أكثر والارتفاع المستمر لسعر التخابر مقارنة بغالبية دول العالم.

فاتورة الكهرباء فاتورتان: واحدة للحكومة وأخرى لأصحاب المولدات
فاتورة الإنترنت اثنتان أيضاً بحكم ارتفاع الأسعار أيضاً واضطرار كثيرين إلى دفع اشتراكي إنترنت: واحد لهاتفهم الخلوي وآخر للمنزل، علماً بأن متوسط سعر اشتراك الإنترنت الشهري في أوروبا هو 15 دولاراً، فيما هو 50 دولاراً في لبنان. أما فاتورة الاستشفاء والدواء والتعليم فباتت هي الأخرى أعلى من غالبية عواصم العالم، علماً بأن العام الدراسي في الجامعة الأميركية في بيروت و«اللبنانية الأميركية» وسيدة اللويزة واليسوعية بات يكلف أكثر من العام الدراسي في معظم جامعات واشنطن وبلجيكا وبرلين.
هذا كله قبل الخروج من المنزل. مطلع كل شهر ثمة زيارة إلزامية إلى السوبر ماركت يفترض الاستعاضة عنها أكثر فأكثر بزيارة الدكان واللحام والخضرجي المحيطين بالمنزل لشراء الأمور الضرورية فقط، علماً بأن أسعار المواد الغذائية هي نفسها تقريباً في كل محالّ السوبر ماركت في لبنان (بعيداً عن «سبينس» طبعاً) ومعظم المخازن الاستهلاكية في العالم، مع فارق صغير هو أن الصناعات الغذائية والحبوب والمنتوجات الزراعية غير المستوردة في الخارج تلاقي دعماً أو حماية أو تباع بسعر تشجيعي من قبل المصنعين والمزارعين أنفسهم. إلا أن المفارقة تكمن في عرض نوعين أو ثلاثة فقط من معظم المنتوجات تكون أسعارها متقاربة جداً، رغم تصنيع دول أخرى للمنتوجات نفسها بأسعار منخفضة. فمحالّ السوبر ماركت مجرد حلقة في مافيا مستوردي المواد الغذائية الذين يحولون دون فتح السوق أمام المنتجات الأقل تكلفة. وتكفي في هذا السياق ملاحظة برادات الأسماك المجلدة في أغلب محالّ السوبر ماركت، حيث هناك علامة تجارية واحدة أو اثنتان رغم وجود مئات الأصناف الأقل كلفة (والأكثر جودة). أما البيتزا الجاهزة فهي نوع واحد أو نوعان يتراوح سعرها بين 8 و13 دولاراً، رغم وجود بيتزا مماثلة في مختلف برادات العالم يتراوح سعرها بين دولارين وخمسة دولارات. ومن يدقق أكثر يكتشف أن سعر كيلو اللحم البلدي في أي دولة في العالم (وأقربها سوريا) لا يتجاوز نصف سعر كيلو اللحم البلدي في بيروت، بعدما بات الأخير عملة نادرة بفضل تحويل الحريرية الاقتصادية والثقافية تربية الأبقار إلى عار وطني وتصنيع مشتقاتها إلى عيب اجتماعي.
وتطول قائمة الأساسيات ليتبين أن الأمر لم يعد يتعلق بما يمكن الاستغناء عنه أو حتى التعايش معه. من يبحث عن وظيفة اليوم يكتشف أن حياته كانت أفضل من دونها لأن النظام الاقتصادي الحالي يقوم على إعطاء الموظف ألف دولار ليأخذ منه ألفين. انتقلت السلطة من مرحلة عدم القيام بواجباتها على صعيد العدالة الاجتماعية ودعم التعليم الرسمي ومراقبة النوعية ودعم المواد الغذائية الأساسية وتأمين الكهرباء والمياه وفرز النفايات، إلى مرحلة القيام بكل ما من شأنه خدمة أصحاب المصارف ووكلاء السيارات والبناء والمواد الغذائية والدواء وشركات النفط والمقاولين وغيرهم من رجال الأعمال الممسكين بكل القطاعات الحياتية. ومن يحسبها جيداً اليوم يلاحظ أن قرفه من النفايات المتراكمة صغير مقارنة بقرفه من زحمة السير ولعنة الفاتورتين وعدم وجود أي متنفس مجاني وغلاء الدواء والمواد الغذائية والأقساط المدرسية والجامعية.




بيروت بلا وسط

يومياً، أو في نهاية كل أسبوع، يحضر السؤال نفسه: أين سنذهب؟ في كل بلدان العالم، لا تخلو بلدة أو مدينة من وسط قديم ممتع يمكن تمضية ساعتين أو أكثر على مقاعده أو تحت أشجاره أو في أحد مقاهيه، فيما يلهو الأطفال بدراجاتهم وكراتهم، من دون أي مقابل. أما في بيروت، فما من شجرة واحدة يمكن الاستمتاع بظلها. اللبنانيون ممنوعون من دخول حرج بيروت. في حديقة الصنائع يمنعون دخول الكلاب و... العشاق. يسأل الحرس من «يمسكون أيادي بعضهم» إن كانوا متزوجين ليأذن لهم بإبقاء أصابعهم متشابكة. قوى الأمن تمنع باعة العرانيس من إيقاف عرباتهم على رصيف عين المريسة. باعة البالونات ممنوعون على أرصفة بيروت. تخطط مدينة براغ لتأمين ضمان شيخوخة للفنانين الذين يملأون ساحاتها بصخب عزفهم، فيما تطارد شرطة بلدية بيروت المغني الوحيد الذي يجلس بين وقت وآخر على أحد مقاعد الكورنيش مدندناً. كل هذا ممنوع. ممنوع أن تخرج من المنزل ما لم تكن تنوي صرف المال. النظام الاقتصادي يقوم على إلزام المواطنين بالدفع كيفما تحركوا. بدل تمضية الوقت في الحديقة العامة، تسوّق في «المول». بدل التنزه في وسط بيروت، تسوّق في «أسواق بيروت». بدل تناول عرنوس عند شاطئ البحر، تناول عشاء في الحمرا أو الجميزة أو مار مخايل. ممنوع أن تستمتع مجاناً بوقتك. السلطة عملت بجهد لتكريس صورة المجارير المفتوحة على طول الشاطئ البيروتي من عين المريسة إلى الرملة البيضاء في أذهان اللبنانيين. وهي تريد أن يقتنع اللبنانيون بأنه شاطئ وسخ لا يجوز الاقتراب منه. ثمة حملات إعلامية وأمنية متواصلة لتشويه صورة الـ»مارينا» في ضبية، عن سابق تصور وتصميم. الشاطئ في معظم دول العالم مجاني أولاً، نظيف ثانياً، ومجهز بمقاعد وحمامات وبعض الملاعب المجانية ثالثاً. ويمكن من يشاء تمضية بضع ساعات فيه، حراً في أخذ منشفته وطعامه معه أو استئجار كرسي بلاستيكي وشراء طعامه وشرابه ممن يستثمرون المساحات المحاذية للشاطئ. هنا الشاطئ محتل أو وسخ أو غير آمن. ومن النقص الفاضح في المساحات العامة إلى الأسعار. أسعار العواصم الأوروبية ضعف أسعار دول شرق آسيا السياحية، إلا أن سعر الوجبة يتراوح بين 6 و12 دولاراً في أكثر من 90% من المطاعم وحتى الفنادق الأوروبية، فيما البرغر عند Roadster بـ24 دولاراً. الـ»هوت دوغ» في نيويورك بدولار، فيما الـ»هوت دوغ» نفسها في الصيفي بستة دولارات. سعر الوجبة لدى Burger King في لبنان ضعف سعرها في معظم دول العالم. سعر كوكتيل الكحول في أغلب دول العالم يتراوح بين 8 و12 دولاراً، فيما تبدأ لائحة أسعار الكوكتيلات في بيروت بـ15 دولاراً. سعر غزل البنات في نيويورك دولار، وسعره في مولات بيروت ثمانية دولارات. تذكرة السينما في نيويورك بثلاثة دولارات، وفي مولات بيروت بتسعة.