عشرة أعوام مرّت على تحرير «الشريط الحدودي» من الاحتلال الإسرائيلي. اختلفت أمور كثيرة. وحتى تلك القرى والبلدات اختلفت، وربما ازدهرت، لكنّ أهلها ما زالوا في انتظار الدولة
ضحى شمس
لا ترتوي أبداً من هذه اللعبة. ما إن تنطلق السيارة على الطريق الساحلية المطلة على بحر الناقورة، متجاوزاً النقطة الأبعد التي كنت تصلها قبل زوال الاحتلال، حتى تلتفت إلى الخلف لترى مدينة صور. بلحظة تستعيد ذلك الإحساس المدهش لرؤيتها من هناك للمرة الأولى، من «الجهة المقابلة»، الممنوعة، جهة فلسطين المحتلة. هذه الصورة تلخّص لي معنى التحرير.
10 سنوات، لم ينجح اللبنانيون في توسيخ شاطئ الناقورة بعد. هنا، حيث كان معبر الآلاف منهم للعمل في بساتين إسرائيل ومصانعها، كانت تصاريح العمال فجر يوم التحرير، مرمية على الأرض: بصورهم، بأسمائهم، بسجلات حركة المرور كلها. بالعربية والعبرية. كأنه لم يتسنّ لعناصر جيش لحد لمّ أوراقهم، مع أن القطاع الغربي كان نقطة الانهيار الأخيرة في الشريط الحدودي المحتل. لم يصدقوا؟ هل كانت بذور فتنة يستدرجون المحرِّرين والمحرَّرين إليها ؟ الله أعلم.
القرى ملاصقة للخط الأزرق. يا لهذه الجغرافيا. كيف من الممكن أن تعيش وأنفك ملامس لأنف عدوك؟ جغرافيا لا تترك مجالاً للسلم إلا بالردع. حتى في هندسة الأبنية يتركون متراً لحفظ الحميمية بين الجيران. لا تزال حركة الإعمار على أشدّها. مبان قيد الإنشاء في كل مكان. كأن الباطون أصبح «زراعة جنوبية مزدهرة». حواجز كثيرة للجيش. لا حواجز لليونيفيل التي أخذت إدارتها المدنية أسبوعَي إجازة «لكي لا تفسّر زياراتنا التنموية باعتبارها تدخّلاً في الانتخابات»، كما قال لنا مصدر فيها.
إسرائيل خرجت منذ عشرة أعوام ولم نعد نعرف عنها شيئاً
«كانت شوارع دبابات وبعدها شوارع دبابات»، يقول نبيل الشعبة، الذي يعمل في ملحمة على كوع الطريق الذي كان يوم التحرير أشبه بسوق أحد عسكري لكثرة الملابس والخوذ العسكرية التي خلعت وسط الطريق، على عجل. اللحام، السائق والمزارع، يقول إن أشغاله الثلاثة لا تكفيه اليوم لإعانة عائلته الصغيرة. «شي أكيد، الناس مشغولة بالانتخابات وبالسياسة اللبنانية. نريد تغييراً، الدولة لم تهتم بنا بعد التحرير. طرقاتنا شقّها العسكر للدبابات، ولا تزال غير صالحة إلا لسير الدبابات! مرفأ الصيادين بُني بأيدي البحرية ولا يزال كما هو. نحن رجعنا للدولة لكن، كأن الدولة لم تقرر أن ترجع بعد!». لكنهم اليوم يزرعون الأرض المحررة الملاصقة للشريط الأزرق؟ يقول: «هذا شغل الناس وليس الدولة! يارون بنيت فيها قصور. الناس ليست خائفة».
تحاول تفادي «الخطاب الرسمي»، تهرب إلى كبار السن. «إسرائيل ما عم نفكر فيها»، يقول الحاج قاسم سرور من قرية شمع (80 عاماً) مضيفاً: «في إسرائيل تانية: اللي عم يحرمك الأكل». هكذا، تعود الأمور إلى نصابها الحقيقي بمجرد الاستقرار. يسألني: «إذا ابنك بدو حبة بوظة وما بتقدري تعطيه، شو بتكون نفسيتك؟». مضيفاً: «ع زمان الفقر كان عندي سيارتان. انظري الآن: الشباب مظلومون، إن لم يسافروا لا يستطيعوا أن يأكلوا». مضيفاً: «منسبّ الأجانب وهيه عم تطعمينا».
في علما الشعب، يبدو الأهالي غير راغبين في الحديث. شزراً ينظر إلينا لحّام سلمنا عليه، في حين ترتبك سيدة لطيفة كانت تشك اللحم. أم غسان أيضاً (70 عاماً) لا تريد أن تتكلم، «بنام طول النهار يا عمتي ما بعرف شي»، تقول وهي تتوكأ على عكازها محاولة الهرب إلى داخل منزلها وهي تصطنع الصمم. لكن، ما إن نسألها عن «النيص»، الحيوان الشبيه بالقنفذ، الذي كانت تطعمه في القفص، حتى تنطلق بالشرح: «بيركض طيارة... من الناقورة على إسكندرونة»، تقول وهي تضحك. نسألها إن كانت تشعر بالخوف اليوم من إسرائيل. أكثر ما تخافه العجوز هو أن إسرائيل قصفت الكنيسة خلال حرب تموز وهم فيها. «صلبوا الله تبعنا»، تقول، أمّا صهرها الذي ركن سيارته للتو في الحديقة مع العائلة فيقول إنه «ما دام عون والسيد وبري متفقين ما في خوف، لا من أميركا ولا من إسرائيل». يضيف: «في ناس أوقات بتبخّ كلام إنو نحنا مضطهدين، لا مضطهدين ولا شي. المسيحية هون ما بيحميهم البطرك. الاتفاق الثلاثي بيحميهم».
رجعنا للدولة لكنها لم تقرر أن ترجع إلينا بعد
الضهيرة. كما هم منذ التحرير في جلستهم أمام المنزل تحت شجرة وارفة، لا يزال أهل المنزل يجلسون هنا: الرجل يدخّن، المرأة تعمل، والصبيّة بدأ الشيب يغزو شعرها. «إنتِ صحافية؟»، تسأل الفتاة كمن يشك في أحدهم، فأرد: «وإنت عندك صورة لستنا مريم بالغرفة فوق إلى جانب صورة الحريري». تبتسم متذكرة. فالصور لا تزال فوق، كما تقول. «كلو بيسب كلو». هذا هو رأي الوالد بالسياسة اللبنانية. هل يعني ذلك أنه لا ثقة لديهم بالدولة التي كانوا يتوقون إليها عشية التحرير؟ يجيب بسرعة بديهة: «أنظري حال الطريق العام وأنت تعرفين». لكنه ما إن نظر إلى الطريق حتى أخذ يصيح راكضاً باتجاه حمار دخل مسكبة البصل وبدأ يرعى. «عمّروا بكل الضيع إلا هالضيعة»، تقول الأم. «اضطررنا إلى شراء نمرة حمراء لأجل الضمان الصحي». لكن ألم يهتم بهم تيار المستقبل؟ ترد: «ليس لهم أحد هنا. نحن من حزب الدخان»، تقصد زراعة التبغ. مضيفة: «الطائفية صوبكم ببيروت». عندما يعود الأب نسأله عن إسرائيل؟ يجيب: «إسرائيل خرجت منذ 10 سنوات، ولم نعد نعرف عنها شيئاً. الجيش وحده يعرف أخبارها». وماذا عن المقاومة؟ فجأة يأخذ الرجل بمديح... جعجع! ما الذي حصل لمن كان يمدح المقاومة منذ عشر سنوات؟ الجواب: 7 أيار.
الحقول التي زرعت على الحدود بالقمح تكوّمت السنابل وسطها في مشهد صارخ الألوان. الناس لا يخافون الزراعة على الحدود، كما يقول أسعد خلف: «زعتر منجيب كمان وسليق». آلية تسير الهوينى على طريق محفّرة. نغرق في الغبار الأبيض خلفها. على مؤخرتها كتب «حلو الرواق». تتحسن الطريق قليلاً قرب يارين، البستان، طربيخا... ها هو أول علم إسرائيلي يلوح أمامنا. الحدود تتلامس هنا والطريق العام. فلسطين تنبسط بمشهدها الزراعي الخصب.
عيتا الشعب. وجهتنا خلة وردة. المكان الذي أُسر فيه جنديان إسرائيليان عام 2006 بالإمكان مشاهدته بسهولة من شرفة أبو نزار صالح. منزل الرجل الذي أعاد إعماره بعد حرب تموز في «الحي المجروف» بمساعدة قطرية، محاط بمواقع عدة: نقطة الحدب التابعة للجيش، نقطة الراهب الإسرائيلية للرصد، وفي الشمال كان هناك مرصد للطوارئ «في ضهر الجمل». «وين الزيتونات؟»، يسأل أبو نزار وهو يدلنا عن بعد على موقع أسر الجنديين. «هذه الأرض كنا نزرعها قمحاً قبل الاحتلال. قالت لنا البلدية: إللي إلو أرض يستغلها، لكن لما راحوا الناس صار تلاسن مع اليهود وتزريك ومسبّات (يضحك) إنو طلعناكم ما طلعناكم. فريخات. الأرض رجعت صحيح بس حرجت. تكلفة استصلاحها عالية، وهي الوازع وليس الخوف».
كان علينا أن نصل إلى السكاي بلازا على الحدود بين رميش وإسرائيل، لنفهم ما يعني متنزه على الحدود: مقابل بوابة الجدار التي هرب منها اللحديون ليلة التحرير، منتجع سياحي على 8 آلاف متر مربع، أنشأه جوزف الحاج: بيسين مطاعم شاليهات... الرأسمال ليس جباناً إذاً؟ نسأله. يقول: «هذا تحدٍ لإسرائيل. أصلاً هذا رابع متنزه برميش». يدلنا أخوه على المستوطنات التي تمثّل عامل جذب لما سمّاه «السياحة الحربية»: «كفر برعم، دوفاف... إلخ». يارون تبدو كأنها فرّخت للتو بمشهد بيوتها القرميد المبنية للتو، أموال أوستراليا تظهر هنا. نصف القرية مهاجر. «الأم كانت تفزّع ولادها وتقلهم: بتجي عليكم إسرائيل. اليوم ما عاد حدا يخاف منها. لذلك، الكل عم يزرعوا أرضهم عالحدود، بس المشكلة بالماي»، يقول المغترب بلهجة جنوبية ثقيلة.
«صالحة»، يصيح السائق ذو الأصل الفلسطيني ما إن أشرفنا من مارون الراس على سهل الحولة. علوّ مارون الراس الشاهق ليس ذا فوائد حربية وحسب. هنا، يكاد المشهد يميت من الضحك. تزدحم «حديقة إيران» العامة بالناس. يأتون بأراكيلهم ليجلسوا ويتفرّجوا «على اليهود».
الأم كانت تفزّع ولادها وتقلهم: بتجي عليكم إسرائيل. اليوم ما عاد حدا يخاف منها
أولاد يتأرجحون بالمراجيح، وحين تعلو أقدامهم، تكاد تلامس مستوطنة أفيفيم. تكاد تقهقه لانقلاب المشهد: تبدو إسرائيل كأنها وحش أُسر في قفص، والجمهور يتفرج. لا يمنع استرخاء «الأركلة» هدى من التمتمة ضاحكة، «انشالله ما تجينا شي رصاصة». مضيفة: «الإسرائيلية بينقهروا لما بيشوفونا مش خايفين منهم». أما علي فقد أخبرنا أنه حجز المكان ليقيم عرسه فيه بعد أسبوعين.
الرصيف الذي أنشأته بلدية كفركلا وسمّته «جادة الشهيد حسين رومل شري»، تماماً عند بوابة فاطمة، أصبح هو الآخر متنزّهاً. ما إن تقف عليه، كما وقف عناصر اليونيفيل يتصوّرون، يظهر لك تحت الطريق، تماماً تحت قدميك، الطريق الإسرائيلي. المشهد يتكرر على امتداد الحدود. يوم الأحد، يوم المناورة الإسرائيلية، اخترنا أن نسمع صفارة الإنذار عند متنزهات الوزاني. أخّرنا ازدحام شبعا بالناخبين، كما المرور ببركة النقار حيث أُسر الجنود الإسرائيليّون الثلاثة، فسمعنا الصوت ونحن ننحدر إلى المتنزه. «حتى التلفون الدولي واصل لهون»، يقول فادي عواضة، ابن الخيام، الذي افتتح المتنزه. كان جنود إسبان قد انصرفوا لتوّهم بعد مفاوضتهم إياه على إزالة كرسي وطاولة وضعهما على ضفة النهر المقابلة... المحتلة. «قالوا إنها ليست أرضنا، فقلت لهم إنها أرض سورية محتلة. فالضفة الأخرى تابعة للجولان». 3 أمتار، عرض النهر، 3 أمتار تفصلنا عن الجولان. يبدو الأمر عبثياً. المتنزه عمره من عمر التحرير. «من كل المناطق بيجونا الناس وبيسألونا: وين الإسرائيلية لنتفرج عليهم؟». ولا يفوت فادي أن يتأفّف من مرور الآليات الإسرائيلية التي «تزعج أحياناً زبائني بضجيجها وغبارها».