في بلدة ببنين (11000 ناخب) تنافست ثلاث قوى كوّنت العمود الفقري لتيار المستقبل في الانتخابات النيابية الأخيرة. أما في منيارة، فكان التنافس مقنّعاً بين العونيّين والقوات، وقد تواجه هذان الحزبان أيضاً في القبيّات، فوقف القواتيون خلف هادي حبيش، والعونيون خلف مخايل الضاهر
غسان سعود
مع الصيّادين استيقظت ببنين أمس. هم لم يبالوا بالصخب الانتخابي الذي تعيشه بلدتهم منذ أسابيع، فذهبوا بهدوئهم المعتاد إلى مراكبهم في أكبر مرفأ للصيادين في لبنان، بحثاً عمّا يطعم الخبز، تاركين لأهالي البلدة احتكار الذهاب إلى مراكز الاقتراع والمكاتب الانتخابيّة، بحثاً عمّا يطعمهم سمكاً.
في ببنين، المعقل الأساسي لتيار المستقبل في عكار، تحوّلت الانتخابات منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري إلى مجرد استفتاء. وبرغم ذلك، كثيراً ما شهدت البلدة نسبة اقتراع تتجاوز الستين في المئة.
أمس، كانت المواكب ثلاثة. واحد للجماعة الإسلامية، التي خاضت المعركة بلائحة مكتملة برئاسة كفاح الكسار، والثاني مستقبلي بامتياز يؤيّد شقيق منسق تيار المستقبل في عكار، والرئيس السابق لبلدية ببنين حسين المصري، والثالث للّائحة المدعومة من عضو كتلة المستقبل في عكار النائب خالد ضاهر ومفتي عكار أسامة الرفاعي، يرأسها عدنان الرفاعي. وكل هؤلاء، المفتي والنائب ومنسق تيار المستقبل في عكار، إضافةً إلى النائب السابق مصطفى هاشم، هم من أبناء ببنين. لكن لماذا يتواجه هؤلاء في لوائح متفرّقة بدل اجتماعهم في ائتلاف كبير؟ عبثاً حاول الرئيس سعد الحريري أن يستوعب المبرّرات، فغسل يديه في نهاية الأمر، متمنّياً عليهم احترام التنافس. وقضى أكثر العروض جدية بتناوب اثنين من المرشحين الثلاثة، على الرئاسة. وانتخاب المرشح الثالث رئيساً لاتحاد بلديات القيطع.
في ببنين أمس، كانت كثافة المقترعين من كثافة البلدة التي ينتخب فيها أكثر من أحد عشر ألف ناخب. وفود المقترعين جاءت في الباصات و«التركتورات» وحتى في «الكميونات». جدران البلدة، زجاج السيارات وواجهات المطاعم والمتاجر، امتلأت جميعها بصور المرشحين. هنا واحد يقول إنّ ببنين غايته، يقابله آخر يعرض صورته في لقطة سينمائية وخلفه ببنين كلها، موقّعاً: «بكبر فيكم». وللّافتات رسائلها المشفرة أيضاً. فهنا واحدة تقول: «من أصغر العائلات إلى أكبرها في ببنين، القلب الكبير يتسع للقلب الصغير». وهنا أخرى ترى أن «نائب القرية، مرجعيتها».
النائب خالد ضاهر أفرغ منزله الببنينيّ من المرافقين والزوار الذين غالباً ما يضج بهم. فحماية الزعامة تستوجب من وقت إلى آخر النزول إلى الأرض. وبرأي ضاهر، فإن الانقسام الانتخابي الذي تشهده ببنين سببه الأطماع الشخصية، واعتقاد البعض أنهم يملكون قرار ببنين، وأنّ باستطاعتهم تجاوز كل فعالياتها. ويشير أحد الموجودين في منزل ضاهر إلى أن لائحة المصري (تيار المستقبل) ضمّت مسؤول حزب البعث في البلدة أحمد الحجّة، وأحد السوريين القوميين الاجتماعيين دباح الحاج (عديل النائب القومي السابق حسن عز الدين). ويذكر هنا أن ضاهر كان في الانتخابات البلدية السابقة مع المصري ضد الرفاعي الذي كان يمثل رسمياً تيار المستقبل.
برقايل، جارة ببنين، شهدت منافسة باردة بين لائحة يرأسها الرئيس الحالي عبد الحميد الحسن، الذي تعدّه كل القوى السياسية قريباً منها، ولائحة أخرى من بعض شباب البلدة. وكان لافتاً أن تيار المستقبل لم يخُض معركة ضد الحسن، الذي لا يزال يرفع صوره في مكتبه في البلدية إلى جانب الرئيس إميل لحود والعماد ميشال عون.

منيارة: «كما وعدتكم بالنصر»

بين برقايل ومنيارة، كانت الزحمة كبيرة والمشاهدات كثيرة: في الحصنية، القومية بغالبيتها، يقترع المواطنون في الجامع. عيون الحاكور التي حسم التوافق معركتها تتطلّع كلها إلى منيارة. بائع العرانيس قرب جسر عرقة استفاد من صور المرشحين، أكثر منهم شخصياً، فحوّلها إلى مظلة تحميه من الشمس.
منيارة لم تنَم أول من أمس، فقد أدخلت القوات اللبنانية تفصيلاً إضافياً إلى اللعبة الانتخابية، يتمثل بسيارات زجاجها العازل يمنع رؤية من في داخلها. أخذت تلك السيارات تطوف البلدة، ممارسةً دور الدولة في تفتيش المرشحين المناوئين للقوات بحثاً عن الرشى التي تدفع للمواطنين، الأمر الذي وتّر الأجواء قليلاً، وخصوصاً أن الأجهزة الأمنية المعنية راقبت هذه الأعمال دون محاسبة المسؤولين عنها. لكن توتر السبت تحوّل هدوءاً صباح الأحد.
نينا التي كانت يداها تراقصان العجين ليل السبت أثناء إعدادها المناقيش للوزير السابق يعقوب الصرّاف، الداعم الأساسي إلى جانب التيار الوطني الحر لرئيس المجلس البلدي في منيارة أنطون عبود، أعدت «مطرة» القهوة العملاقة لتكون من أوائل الواصلين إلى المكتب الانتخابي للائحة منيارة، قبيل توجّه المندوبين جميعاً إلى مركز الاقتراع.
هناك بدا واضحاً أن العلاقات الاجتماعية وصلات القربى أقوى بكثير من لعب البعض على التناقضات السياسية. فتغيّر المشهد كله دفعة واحدة: أستاذ الرياضة عميد الصراف كان مرناً جداً في تنقله من باب إلى آخر، مذكّراً الناخبين، بطريقة غير مباشرة، بأنّ اسمه وسط المرشحين على لائحة الإنماء والتغيير. الطبيب جوني سعود كان يقف في نصف الملعب مجيّراً علاقاته الاجتماعية الوطيدة بمعظم أبناء البلدة (وبناتها لكونه طبيباً نسائياً) لمصلحة اللائحة نفسها. أما سليم الزهوري، رئيس هذه اللائحة، فاختار لنفسه زاويتين تكشفان الملعب أمامه، كي يبقى على اطّلاع مباشر على كل ما يحصل. ومثله فعل الناشط في القوات اللبنانية طوني حيدر. الأخير يعرف ماذا يريد من المعركة، وقد حرص على تحقيق كل ما يريده حتى آخر هدف.
في المقابل، أنطون عبود، المحسوب على الحزب السوري القومي الاجتماعي، ثبّت الهاتف على أذنه بيدٍ، تاركاً اليد الأخرى تتنقّل بين أيادي الناخبين. وبدوره، لم يتعب بهيج صبّاغ، المحسوب على الحزب الشيوعي، طوال النهار من نقل الناخبين من منازلهم إلى صناديق الاقتراع، علماً بأن صبّاغ حلّ في اللحظة الأخيرة على لائحة منيارة محل صادق خوري، الكتائبيّ الذي انسحب في محاولة من اللائحة المناوئة لإحراج لائحة عبود. ووسط المرشحين، تتلاقى البلدة مع نفسها، ويعود إليها النازحون فجأةً: عناق، قبلات، وشوشات وخصومات عابرة. كل ذلك على وقع أناشيد حزب الله، وخصوصاً «كما وعدتكم بالنصر دائماً أعدكم بالنصر مجدداً»، تضعها سيارات المؤيدين لعبود في واحدة من أكبر البلدات الأرثوذكسية في عكار. وبعيداً عن صخب الخارج، كان إميل عبود ـــــ مدير ماكينة لائحة منيارة ـــــ يدرس مع مجموعة من الشباب لوائح المقترعين وغير المقترعين، مقدّماً كل ساعتين فرزاً أولياً للأصوات التي في الصناديق، تمهيداً لإعلانه عند الساعة السادسة فوز لائحة شقيقه بنحو ضعف الرقم الذي حصدته اللائحة المناوئة.

القبيّات: ماكينتان وزعيمان

المعركة في القبيات كانت لها نكهة مختلفة: النائب هادي حبيش يريد تكريس زعامته في البلدة، وإثبات حضوره مارونياً رداً على الاتهامات الموجهة إليه دائماً بأنه نائب بفضل الصوت السنّي. وفي المقابل، النائب السابق مخايل الضاهر ومعه مجموعة من المتطلعين إلى كرسي حبيش، يودّون استعادة حضورهم القبياتي. هناك كانت الأصوات محسوبة بدقة، وحسابات الطرفين متقاربة. فلم يبالغ أحد في الاعتداد بالنفس أو الاستهزاء بقدرات غيره. وهكذا، بدا أن المعركة تدور بين ماكينتين تعرفان جيداً دوريهما وواجباتهما في مراكز الاقتراع السبعة. فكان الصراع جدياً: هنا سيارة تُحضر ناخبين لهذه اللائحة، فتقابلها خلال ثوانٍ قليلة سيارة أخرى تحمل مقترعين للائحة الأخرى. يصل حبيش أو شقيقه زياد إلى قلم اقتراع، فيتحرك منسّق التيار الوطني الحر في عكار جيمي جبور أو المحامي جوزف مخايل صوب قلم آخر. تشيع لائحة حبيش أن أنصار اللائحة الأخرى، ذات الرؤوس الثلاثة، يشطبون كثيراً، فيرد هؤلاء أن لائحة حبيش ـــــ القوات هي للتشطيب عنوان. وكان واضحاً اتكال الطرفين على الناخبين المقيمين في بيروت لحسم النتيجة سلباً (بالنسبة إلى حبيش) أو إيجاباً (بالنسبة إلى الضاهر). يجلس النائب السابق مخايل الضاهر في حديقة منزله الخلفية، متفرغاً للمقابلات الإعلامية. وهو يرى أن عوامل شخصية وعائلية ومناطقية تؤثر في الانتخابات البلدية، وبالتالي لا يمكن الحديث عن انتصار سياسي لطرف ضد آخر.


سجيع عطية: مهندس التوافق

نجح اتفاق التيار الوطني الحر ومؤسسة فارس في تجنيب عدة بلدات عكارية المعارك الانتخابية، لتفوز بالتزكية نحو عشرة مجالس بلدية شملها اتفاق المؤسسة والتيار، تمهيداً لاتفاقهما مع القوى الأخرى في هذه البلدات. عرّاب هذه التزكيات هو رئيس اتحاد بلديات الجومة، ومدير أعمال عصام فارس في لبنان سجيع عطية. الأخير بدأ التواصل جديّاً مع التيار الوطني الحر عبر لقاء عقد قبل نحو ستة أسابيع مع أمين سر لجنة المناطق في التيّار وليد الأشقر. وقد وُضعت على أثره خريطة للبلدات التي يتشارك التيار ومؤسسة فارس النفوذ فيها، واتُّفق على خطة أولية لطريقة العمل. فوضعوا لائحة بالتوجهات المشتركة قبل أن يقاطع الطرفان معلوماتهما. وكان الاتفاق الأول في بلدتي النهرية وضهر الليسينة، تمهيداً لاتفاق أكبر شمل رحبة والشطاحة وبينو وبزبينا ودير دلوم.
يشار هنا إلى أن نفوذ التيار الوطني الحر في هذه القرى شعبي، أما نفوذ فارس، فيوازن بين مجموعة من الأكاديميين والنقابيين ومجموعة من الوجهاء والنافذين في قراهم، وهم أصدقاء للمؤسسة. وبالتالي، فإن التيار كان يفتقد في بعض هذه القرى المرشحين الجديين، فوجد في اقتراحات مؤسسة فارس ما يعجبه. علماً أن المؤسسة حرصت في اختيارها على تسمية من لا يمثّلون استفزازاً لأي طرف، وعلى اتساع الاتفاقات لمروحة واسعة من القوى السياسية.
وبموازاة فوز التيار بإيجاد موطئ قدم له في هذه القرى، نجحت مؤسسة فارس في تأكيد حضورها في هذه البلدات وغيرها، متجاوزةً تشكيك بعض القوى السياسية في حقيقة حجمها العكاري. وفي رأي أكثر من متابع، فإن المؤسسة استفادت من علاقات عطية المنفتح على مختلف القوى السياسية.
ويشار هنا إلى أن المهندس الذي اختاره فارس قبل بضع سنوات ليمنحه صلاحيات أوسع من مهمّاته كرئيس لبلدية رحبة ـــــ جارة بينو، بلدة فارس، يرى أن في رئاسته لاتحاد بلديات الجومة ما هو أهم بكثير من الكرسي النيابي، مفترضاً أن باستطاعة مؤسسة فارس المشاركة في تسمية عدة نواب بدل الاحتفاء بحصولها على كرسي نيابي واحد.
غ. س.


سميح عبد الحي: الشيخ الصعب

تغيب أعلام المونديال عن شرفات منازل فنيدق. هنا لا يجد أهالي الجرد النائي أيّ قيمة مضافة «للعرس الكروي»، بل إنّ التسمّر أمام شاشات التلفزة يمثّل بالنسبة إليهم نوعاً من الترف الاجتماعي، وخصوصاً أنّ الآلاف منهم يقضون أوقاتهم في البساتين والدكاكين، التي تحوّلت، أخيراً، إلى مكاتب انتخابية مصغّرة.
ففي قرية العشر عشائر، يقودنا الحديث عن البلديات إلى سميح عبد الحي، الرجل الذي طبع العمل البلدي في فنيدق بطابعه منذ عام 1998، حين تجرأ على خوض الانتخابات في وجه النائب النافذ وجيه البعريني.
هكذا، دخل عبد الحي نادي فعّاليات فنيدق نتيجة تراكم في العمل الاجتماعي. فأبو براء حاز إجازة في العلوم الشرعية من السعودية قبل أن يعود عام 1990 شيخاً خطيباً في مسجد فنيدق الكبير. لكنّ الرجل لم يكتفِ بالخطابة لنشر دعوته بل أسّس مدرسة البراءة الإسلامية. وفي غضون 8 سنوات، أنشأ مجمّعاً طبياً وسنترالاً محلياً ومعهداً مهنياً.
في عام 1998، خاض «الشيخ» أول تجرية بلدية، فربح العضوية وخسر الخطابة بأمر من رئيس دائرة الأوقاف.
ومع تعاظم عدد مؤسساته التربوية، تغلغل أبو براء بين عائلات فنيدق التي صبّت أصواتها في معركة 2004 البلدية، في صندوق قرار الشيخ.
وبعد عام واحد، اغتيل الرئيس رفيق الحريري وجرت انتخابات نيابية نسج خلالها عبد الحي علاقات مميّزة مع نواب عكار الجدد وآل الحريري.
هكذا، ترأس الرجل عام 2006 اتحاد بلديات جرد القيطع، وعزّز صلته بالمفتي أسامة الرفاعي حتى أضحى رقماً صعباً في عكار.
في الانتخابات النيابية الأخيرة، دعم عبد الحي فوز خالد زهرمان بالمقعد النيابي. واليوم، يردّ النائب الجميل بوقوفه إلى جانب الشيخ في الانتخابات البلدية، في معركة جمعت أسماءً من العيار الثقيل في مواجهته، ابتداءً من وجيه البعريني والنائب السابق محمود المراد، مروراً بالشيخ محمد بكار زكريا، الذي يثيره دعم عبد الحي للمفتي «لكونه خصمه اللدود على هذا المنصب». ومع ذلك يبدو الشيخ مطمئناً إلى قاعدته الصلبة التي لن تخذله رابحاً كان أم خاسراً، كما يقول.
إ. ح.