«إن أي شكل جديد من الصراع يطرح أخطاراً أو تضحيات جديدة سيؤدي حتماً إلى تفكيك أي تنظيم غير حاضر لخوض هذا الشكل الجديد من الصراع»لينين

كان الحزب الشيوعي اللبناني يستعد لعقد مؤتمره الحادي عشر في 23 من اكتوبر، ولكن بقرار مفاجئ للجنة المركزية للحزب تم «تجميد أعمال المؤتمر». من المؤسف أن الحزب الذي ينخرط بقوة في الحراك الشعبي يتخلى عن فرصة إمكانية استنهاض قواعده الحزبية واجتذاب الذين نزلوا الى الساحات ليقولوا لا للنظام الطائفي، وذلك عبر طرح نفسه كحزب متجدد فاعل يطرح برنامجاً للتغيير وهيكلية لانخراط الطبقات والمجموعات المتقدمة في المجتمع في عملية التغيير هذه.

وكان من المهم أن يفعل ذلك في خضم الحراك ليكون المؤتمر فعلاً سياسياً وليس تقليداً يؤجل انعقاده ربطاً بانتهاء الحراك إن إيجاباً أو سلباً.
والمفارقة أن الحراك الواسع يتجه بعد قرار التجميد الى احتمالات الانحلال بسبب إصابته برهاب التسييس ولتركيزه أكثر فأكثر على مسألة النفايات وحلولها التقنية والبيئية وتقديس البلديات (التي هي في الكثير من الاحيان أسوأ من الدولة المركزية ومكان لتجذر العصبيات والمصالح العائلية والمذهبية والمناطقية وعبادة الشخص، ومثال على ذلك تفريخ «القصور» البلدية) والارتباك الحاصل بعد خطة شهيب الاخيرة وبعد البيان والمؤتمر الصحافي الفاشل للجنة متابعة حراك 29 آب الاسبوع الماضي، والذي أتمنى ألا يكون الكثير من اللبنانيين قد حضروه. والمفارقة أيضاً أن قرار التجميد يترافق مع إخفاء دور الشيوعيين القيادي في هذ الحراك وقبولهم في العلن أن يكونوا جنوداً فقط. بغض النظر عن هذا القرار الخاطئ ومآل الحراك ومتى سيعقد المؤتمر، سأحاول في هذه المقالة وضعه في السياق الذي نعيش فيه اليوم، أي محاولة الاجابة عن سؤال أساسي: هل الظرف والسياق الحالي وروح العصر تعطي الشيوعيين أسباباً للتفاؤل بأن يكون لديهم إمكانية التحول الى حزب سياسي فاعل؟

الحراك الشعبي في لبنان فتح كوة في جدار النظام الطائفي المغلق

يعيش الشيوعيون اللبنانيون اليوم أفضل الاوقات منذ سقوط جدار برلين واتفاقية الطائف وانهيار الاتحاد السوفياتي. فبعد تلك الاحداث بزغ نجم الحريرية وآمال الرأسمالية اللبنانية الجديدة بحيث اعتقد كل لبناني أنه يستطيع أن يغتني من ماكينة الاقتصاد الجديد، وأتت أيام التعاون بين الطوائف، يغذيها الدين العام وآلية التوزيع للدولة على الطوائف والبورجوازية الريعية. على المستوى العالمي كان لنموّ الولايات المتحدة في التسعينيات والاعتقاد السائد بنهاية الدورات الاقتصادية الأثر البالغ في إقناع الكثيرين بأنه تم اكتشاف الكأس المقدسة للرأسمالية، أي انتهاء عصر الازمات، وبالتالي أصبح للرأسمالية مقدرة على النمو اللامتناهي. في الوقت نفسه نمت الاسواق المالية ومعها الاعتقاد بالمقدرة على الاغتناء بسرعة، أي التحول الى الرأسمالية الشعبية التي تحل معضلة الملكية واللامساواة التي تشكل إحدى أضعف حلقات الراسمالية. على المستويات الفكرية كانت تلك الفترة عند اليسار الاوروبي عصر الطريق الثالث بين الاشتراكية التقليدية والنيوليبرالية، وفي العموم التهكم بفكر ماركس والماركسية. وكما يذكر الجميع، عمّت فكرة انتهاء التاريخ بالدولة الليبرالية الرأسمالية مع فوكوياما.
إن الاحزاب السياسية وبعض الدول التي لا تزال تتبع الفكر الماركسي استطاعت الاستمرار في تلك الفترة. للدول طبعاً مصالح، وللأحزاب في بعض الاوقات القدرة على الاستمرار. ولكن أصعب تأثيرات تلك الفترة كان على الافراد. لقد كان أصعب ما واجهه الافراد الماركسيون في تلك الحقبة هو إحساسهم بفراغ فكرهم. فالنقد الثوري للواقع في تلك الفترة بدا من غير معنى، وبدا للماركسيين أن هذا الفراغ قد يستمر لمدة زمنية طويلة.
الآن يحس الشيوعيون بأن نقدهم لم يعد فارغاً. فكما قال الفيلسوف ريموند جيس، في معرض نقده للفكر العدمي والنسبي، «ليس هناك ما يوجب الاعتقاد بأن الفكر النقدي يصبح دائماً فارغاً عندما يتحول الى الراديكالية. لو كان هذا صحيحاً، لكانت الاقلية التي تمتلك الثروة والدخل وتستفيد من الاوضاع القائمة مرتاحة جداً لهذا. لكن النقد يكون فارغاً أو لا حسب السياق الذي يأتي به». النظام اللبناني الذي أرسي في تسعينيات القرن الماضي هو في أزمة كبرى بوجهيه الطائفي والرأسمالي. وشكلت أزمة الرأسمالية في 2008 عاملاً مهماً في انتهاء سيطرة الفكر النيوليبرالي والرمي في سلة المهملات بالكأس المقدسة المزعومة للرأسمالية وبفكرة نهاية التاريخ. كذلك فإن صعود اليسار في اميركا اللاتينية واوروبا وصعود الصين كمركز جذب ايديولوجي، وإن بأشكال جديدة، شكلا الوجه السياسي لأزمة الرأسمالية. أما في العالم العربي، فالربيع العربي أتاح الفضاءات لانتعاش اليسار في تونس ومصر، والآن في العراق، وتحطم الفكر الاسلامي السياسي في صراعات مذهبية في ما بين أجنحته وفي فشله في القيادة عند الوصول الى السلطة وتحوله الى الارهاب أو إقامة سلطات عدمية.
اليوم، الحراك الشعبي في لبنان فتح كوة في جدار النظام الطائفي المغلق. لم يعد هناك وقت للبكاء على الاطلال ولا للدفاع عن فكرة الحزب ــ القلعة. الشيوعيون كأفراد لم يعد لديهم شيء يشدهم الى الوراء، وبقي على الحزب أن يعلن أن لا عودة الى الوراء، وأنه جدير بأن يكون حزب التقدم والاشتراكية الذي على عاتقه تغيير البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الظالمة، ليس فقط من أجل أن تنتصر الطبقة العاملة، بل من أجل أن ينتصر المجتمع ككل على الرأسمال والطائفية، ومن أجل أن تنتصر الطبيعة أيضاً، لأن الطائفية والرأسمالية اللبنانية انتقلتا الى مرحلة التوحش، ليس فقط ضد أعدائهما الطبقيين والسياسيين، بل ضد المجتمع والطبيعة نفسيهما.