في السنوات الأخيرة من التسعينيات، كانت حياتي فوضى شاملة. كنت أدرس الصحافة في كلية الإعلام جامعة القاهرة، وأتدرب على العمل الصحافي متنقلة من جريدة إلى أخرى: لا سكن دائماً لي، ولا عنوان محدداً، ولا حتى رقم هاتف يمكن الوصول إليّ من خلاله.كنت مفتونة بالعيش وحدي في مكان لا جذور لي فيه، ولا روابط دائمة. أظهر فجأة وأختفي بلا مقدمات، وأتحرك في دائرة محدودة من المعارف والأصدقاء.

كانت الكتابة هي الثابت الوحيد في حياتي في تلك الفترة؛ أحبُ أن أراها كاختيار واعٍ تمحور حوله كل ما عداه، أما النشر فانفتحت أبوابه أمامي بالصدفة حين فازت قصة من قصص البدايات بجائزة على مستوى الجامعات المصرية.
قبل «ضوء مهتز»؛ كتابي الأول المنشور، كان هناك «كتاب» أول محذوف؛ مجموعة أولى من قصص نُشرت في مجلات وجرائد معروفة، ونالت مديحاً من كتاب عديدين على رأسهم محمد البساطي. هذا «الكتاب» الذي لم يرَ النور كان من المفترض أن يصدر برسومات داخلية مهداة من الفنان جودة خليفة؛ إلّا أنني غيرت رأييّ وآثرت عدم نشره، ولا يقلل من سعادتي بقرار عدم النشر سوى أن فرصة اقتران نصوصي برسوم «عم جودة» ضاعت لأنه رحل قبل صدور «ضوء مهتز».
كان هناك أيضاً ديوان شعر؛ قصائد نثر كتبتها بإيقاع لاهث، ومسرحية قصيرة فيها من القص والحكي أكثر مما فيها من المسرح، ونصوص عديدة غير منشورة، ضاعت كلها أثناء انتقالي من سكن لآخر، ومن غرفة ضيقة لأخرى أضيق خلال سنواتي الأولى في القاهرة، إذ في كل مرة، كنت أترك ورائي مسودات ونصوصاً مكتملة، ولا أكتشف ضياعها إلّا لاحقاً.
وأنا أكتب قصص «ضوء مهتز»، أردت من الكتابة أكثر مما بإمكانها منحه؛ رغبت في أن تقودني الأحاجي والألغاز المكتوبة إلى أجوبة على أسئلة لا أدرك كنهها تماماً، وأن تكون الأضواء المهتزة لعباً لاهياً مع الضوء والظل وتلاعباً بهما لا طريقاً للإنارة أو الإيضاح. أردت من الكتابة أن تروِّض مخاوفي وتخففها، فإذا بها – كدأبها في الخيانة والمراوغة – تضاعف الخوف وتنقّيه من كل ما يشوِّش عليه أو يخفف منه.
بالكلمات وحدها رغبت في ترويض أشباح مخيلتي والتآلف معها. في السينما يملك المخرج أكثر من وسيط لنقل التوتر والخوف لمشاهديه، معه الصورة السينمائية والموسيقى والإضاءة بتدرجاتها، وتعبيرات الممثلين. في حالة الكتابة، لا نملك سوى الكلمات ومخيلة القارئ إذا نجحنا في تحفيزها للتواطؤ مع ما نريده.
وقتها كنت مشغولة بأسئلة من قبيل: كيف يمكن كتابة الخوف؟ كيف يمكن القبض على حالات الفزع والهستيريا وتحويلها إلى فن؟ وتمثَّل التحدي أمامي في كيفية الوصول إلى لغة توحي ولا تبوح، لغة تكثِّف الضباب والغموض بمفردات بسيطة واضحة بعيدة من التورط العاطفي والمجاز المبالغ فيه.
في نصوص «ضوء مهتز»، كتبت عن رجل يحفر قبراً لفتاة صغيرة ترقد بجوار الحفرة فيما شعرها ملوث بالدم المتجلط وملابسها ممزقة، وعن امرأة تقتل أخرى وتشعر أنها لم تكن قريبة من إنسان كما كانت قريبة من ضحيتها لحظة قتلها إياها. في القصص كان ثمة زهرة جلاديولس دموية تتسع باضطراد على الذراع، وعيون محدقة في الفراغ يفزعها نعيق البوم وتطاردها جريمة قتل في كابوس متكرر، وصاحب مقهى خشن يبصق التبغ بعد مضغه وهو جالس في مقهاه المنعزل والخاوي على الطريق السريع، ومخمور نسي الطريق إلى بيته.
في القصص، كنتُ: القاتلة والقتيلة. الفتاة الصغيرة وحفار قبرها والراوي الذي يبزغ مشهدهما أمامه باستمرار. باصق التبغ العجوز والكاتبة الراغبة في كتابة قصة عنه وتفشل لجهلها بكلماته المبصوقة مع التبغ. الغريبة في البار مهتز الإضاءة ورجل «الكونتر» الذي يغرس السكين في ندبته وندبتها.
كنت كل شخصياتي المتخيلة وكانتْني.
كتبت قصص المجموعة كما لو أنها أول ما كتبته وآخر ما سأكتبه، بمزاج الهواة وشغفهم. لم أكن راضية عنها تمام الرضا بطبيعة الحال، وحين كنت أسمع مديحاً فيها كنت أقابله بتشكك وأعزوه إلى الرغبة في تشجيع «موهبة جديدة». ولو طُلِب مني إعادة نشرها اليوم، لحذفت بعضها ونقحت البعض الآخر. ومع هذا أراها تحمل بذور كل ما تلاها. في مقالته عن روايتي «متاهة مريم» مثلاً، رأى الدكتور صبري حافظ أن الرواية تخرج من إهاب قصة «ضوء مهتز». لم أتفق معه في تحديد تلك القصة بالذات، وإن كنت أعترف بالصلة الوثيقة بين روايتي الأولى وعوالم وأجواء مجموعتي القصصية الأولى. أيضاً العلاقة الملتبسة بين بطلتيّ روايتي الثانية «وراء الفردوس»، مستلهمة من قصة «زهرة جلاديولس حمراء» في مجموعة «ضوء مهتز».

كتبت قصص المجموعة
بمزاج الهواة وشغفهم، وحين
كنت أسمع مديحاً فيها كنت
أقابله بتشكك


قرار نشر تلك القصص في كتاب، أخذته تحت إلحاح ياسر عبد الحافظ، بعد أن قرأ القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، حين نُشِرت لأول مرة في «أخبار الأدب»، وأعجبته. لا أتذكر كلماته بالضبط، لكنه ذكر شيئاً عن إعجابه بما سمّاه «المخيلة المخمورة» في قصصي، كنت وقتها أكتب بالتوازي مع هذه القصص روايتي الأولى «متاهة مريم»، وأواجه مشكلات فنية عديدة أثناء الكتابة، وخطر لي أن نشر القصص في كتاب ربما يمثِّل حلاً ما لتلك المشكلات. لم أعرف كيف! كان فقط حدساً أكثر منه قناعة مبنية على مبررات منطقية. ربما دفعني لنشر «ضوء مهتز» أيضاً تأكدي من أنني لو لم أفعل ذلك وقتذاك، سوف أمتنع عن نشرها لاحقاً، وستلحق بالمجموعة الأولى غير المنشورة في قاع دُرج سوف تُنسَى فيه حين أنتقل لسكن جديد.
قبل الدفع بالقصص إلى المطبعة بأيام، نظر الناشر والصديق محمد هاشم، إلى البروفات وطلب مني إضافة قصة أخرى، برر طلبه بأن عدد القصص قليل جداً وأن حجم الكتاب لن يكون مُرضياً.
كان طلباً غير متوقع، أو بالأحرى غير ممكن نظراً لمزاجيتي في الكتابة. أخبرته أنني سأحاول من دون وعد مؤكد، كنا يوم أحد على ما أتذكر وأراد مني القصة يوم الأربعاء.
المفاجأة، أنني ذهبت إليه، في «دار ميريت»، قبل الموعد بقصة «تآمر الظلال»، وأنها كانت أكثر قصص المجموعة لفتاً للاهتمام وأكثرها ترجمةً. كثير من قصص المجموعة تُرجِم لاحقاً للغات عدة.
بعد صدور المجموعة، في يناير 2001، فوجئت بأنها قوبلت بحفاوة وتشجيع لم أتوقعهما. لم تُكتب عنها مراجعات نقدية كثيرة؛ ربما خمس أو ست مقالات، لكنها كانت محتفية جداً ومادحة لاختلافها عن السائد وقتها في أعمال الكُتَّاب الجدد. عُقِدت حولها ندوتان، شارك في الأولى الناقدان إبراهيم فتحي وسيد البحراوي، وفي الندوة الثانية د. محمد بدوي و د. محمد الشحات و د. أمينة رشيد، ولا أزال أتذكر حتى الآن جملاً مما قيل خلال الندوتين. كما اختارها الناقد الراحل محمود أمين العالم وآخرون بين أفضل ما قرأوه خلال عام صدورها.
من بين كل ما كُتِب عن المجموعة، كان أكثر ما لفت نظري خبر جاء فيه أنها ترصد محطات من طفولة الراوية ومراهقتها مكتوبة بنبرة حميمة، ما يعني أن كاتبه إما قرأ مجموعة أخرى أو أن حفر القبور والقتل والكوابيس العنيفة من سمات الطفولة من وجهة نظره.
لكن بجانب هذا، تحدث البعض عن الراوية الفصامية في غير قصة، وتوقف آخرون أمام حالة الاهتزاز بين الحلم والواقع، أو كابوسية الأجواء، أو الولع بالسر والغموض. كنت أسمع وأقرأ هذا كما لو كانت الكلمات عن كاتبة أخرى ولا أعلق إلّا نادراً.