في أحد مقاهي اللّاذقيّة يلتقي أحمد أصدقاءَه في جلسة وداعيّة. ابن حلب الذي جرّب وعائلتَه النزوح الداخلي إلى المدينة الساحليّة يقول إنّه عَدم الحلول هُنا، وصار لا بدّ من الهجرة. «بُكرة متل هلّأ بكون بكراج ألمانيا»، يقول ضاحكاً. و«كراج ألمانيا» ليست تسميةً ابتكرَها الشاب، بل رائجة على نطاق واسعٍ بين الراغبين في مغادرة سوريا، وتُطلق على منطقة جسر الثورة في وسط العاصمة دمشق.
من هناك تنطلقُ رحلاتٌ يُنظمُها عدد من «المكاتب» بشكل غير مُعلن، تتكفّل بنقل الراغبين في السفر إلى بيروت عبر نقطة المصنع الحدوديّة، ومنها إلى تركيا جوّاً، أو بحراً عبر طرابلس إلى مرسين. «كل شي بتَمنو» يقول أحمد، ويضيف «هني بيتكفلو بكل شي: الحجوزات، وإجراءات الحدود، والحواجز. وإذا بدّك تكمّل معهم عأوروبا بيزبطولك أمورك مع جماعتهم بتركيّا». المفارقة، أنّ كلام الشاب جاء في اليوم ذاته الذي تداولت فيه وسائل إعلام رسميّة أنباءً عن مناقشة الحكومة السوريّة ملفّ «الهجرة وملاحقة مافيات التهريب». لكنّ الشاب لا يبدي إزاء طرحنا هذا الموضوع غير السخرية «حكي فاضي. لو تعرف هاللي عم ينظمو الرحلات تحت جناح مين بيشتغلو كنت ضحكت كتير». يكتفي أحمد بالإيحاء بأنّ تنظيم الرحلات المذكورة يحظى بغطاء من أحد المتنفّذين، ويرفض بشكل قاطعٍ الإشارة إليه تلميحاً أو تصريحاً «بدنا العنب، وما حدا بيقدر يقاتل الناطور». والعنب بالنسبة إلى الشاب وكثير من السوريين بات الانطلاق في رحلةٍ الذاهبُ فيها مفقود، والواصل منها مولود. يعانق أحمد أصدقاءه بحرارة، يحاول الجميع مداراة الدموع بستار من المزحات السمجة التي تبدو لطيفةً في حالة كهذه «إذا غرقت، مجهزلك نعْوة غير شكل»، «ما رح يغرق لأنو دروس السباحة اللي عطيتو ياهن بيعلمو الدب كيف يقطع المانش»، «أنتم السابقون ونحن اللاحقون... زبطلي أمورك بألمانيا مشان نستفاد من خبرتك»... إلخ.

بحثاً عن ثغرة في أفق مسدود

ليسَت نيران الحرب المباشرة وحدها الدافع وراء الهجرة. ثمّة أسباب متداخلة يتربّع على رأسها انسداد الأفق وانعدام الحلول. «لن تنتهي هذه الحرب قبل أن تُنهينا. السفر فرصة نجاة وتأسيس حياة جديدة» يقول ماجد. يدور نقاش طويل بين الشبان الثلاثة الذين ودّعوا صديقهم للتو، يتطرّق إلى الواقع الاقتصادي المزري، وانعدام الأمان، والخوف من الاضطرار إلى حمل السلاح والانخراط في الحرب بشكل مباشر. «أنا ما رح سافر لو شو ما صار، وإذا اضطريت رح أحمل سلاح» يقول حسن الذي ينتظر النتائج الامتحانيّة للتخرّج في كليّة الآداب. لكنّ ماجد يطرح رأياً معاكساً «عم جمّع مصاري السفر. لو بعرف إنو حمل السلاح رح يجيب نتيجة كنت حملت. بدهم ياك تروح تموت وبس». تحضر على الطاولة الدول الأوروبيّة، سيّما ألمانيا، والسويد، ويتبارى الشبان في إيجاد الأسباب الحقيقية وراء احتضانهما اللاجئين السوريين. يحسم محمّد النقاش بالقول «أخي شو ما كان السبب. القصة باختصار إنو اللي هون ما بدهم يانا، واللي هونيك بدهم يانا».

من النزوح إلى الهجرة... دمٌ كثير

لا تُعتبر الهجرة طارئةً على حياة السوريين في ظل الحرب. خلال العامين الأوّلين كادت فكرة النزوح تقتصر على أبناء المناطق الساخنة. قسم من هؤلاء كان يتمتّع بالملاءة الماليّة فسارع إلى تصفية أعماله ومغادرة البلاد، مستفيداً من ترحيب دول عدّة في تلك الفترة، وخاصة تركيا ومصر. قسم آخر لجأ إلى حل «النزوح الداخلي»، فيما رأى آخرون أنفسهم في مخيمات اللجوء في دول الجوار. مع مرور الوقت، وتفاقم سيل الدم السوري، بدا الوعي الجمعي المحليّ مقتنعاً بأنّ الحلول التي كان يُبَشَّرُ بها لا تعدو كونَها إبرَ تخديرٍ لم تعُد لتؤثّر في أحد. والذين نزحوا داخليّاً، أو قصدوا مخيمات دول الجوار على أمل عودةٍ قريبة، وجدوا أنفسهم أمام جُدرٍ عالية. ومنذ مطلع العام الحالي بدأت ظاهرة الهجرة تأخذ طابعاً جديداً أشبهَ بالهجرات الجماعيّة، وسط تزايد أعداد الزاهدين في البقاء. يتساوى في ذلك سكّان المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة السورية وقاطنو المناطق الخاضعة للمجموعات المسلّحة.

التهريب شرّ لا بدّ منه

إذا كانت الأراضي اللبنانية معبراً مضموناً وآمناً لسكّان مناطق الدولة، فإنّ تركيا لم تعد كذلك بالنسبة إلى سكّان مناطق المجموعات المسلّحة. صار عبور الحدود مغامرةً أولى في درب الآلام الطويل. رصاص الجندرمة التركية حاضرٌ في كثير من الأحوال، ورصاص بعض المجموعات المسلّحة في بعض الأحيان. مخاطر إلقاء القبض على المتسللين وإعادتهم إلى الأراضي السورية (الخاضعة للمسلّحين) حاضرةٌ أيضاً. هذه الظروف خلقت مُناخ عملٍ مثالي لمافيات التهريب.

خلال العامين الأوّلين كادت فكرة النزوح تقتصر على أبناء المناطق الساخنة
فالمهربون المتعاملون مع المسلّحين، ومع الجندرمة في الوقت نفسه، يُعتبرون ضمانةً لعبور آمن. المفارقة أنّ لمافيات التهريب سلطةً أيضاً في المناطق المحاصرة داخل الأراضي السوريّة. ومقابلَ مبالغ تبدو خياليّة في بعض الحالات، يُمكنك الاتفاق مع مهرّب على إخراج عائلتك من دير الزور إلى الرقّة (عبر المنافذ الخاضعة لسيطرة تنظيم داعش). 3000 دولار طلبها أحد المهرّبين من فراس لقاء خدمة مماثلة. لكنّ الشاب وجد طريقةً أخرى، تمثّلت في دفع نصف المبلغ لأحد «الواسطات الوازنة» مقابل إخراج العائلة عبر المطار العسكري (تحت سلطة الدولة السورية، وبطائرة اليوشن تابعة لسلاح الجو)، ولتغيّر العائلة من مخططاتها، فتختار السفر من دمشق إلى بيروت، ومنها إلى تركيا، بدلاً من مسار دير الزور ــ تل أبيض. قبل أن يُنهي محادثة الـ«سكايب»، يضحك فراس المقيم في تركيا ويقول: «كنت أفتش عن طرق للوصول إلى أوروبا من دون الاستعانة بالمهرّبين، فاضطررت إلى الاستعانة بهم داخل سوريا. يبدو أن على السوري أن يُغنّي دائماً: أنا والتهريب وهواك... عايشين لبعضينا».

لا وقت لـ«لمّ الشمل»

خلال عامي 2013 و2014 كانت الخطّة المتّبعة من قبل كثير من العائلات تقوم على هجرة أحد أفرادها أوّلاً، على أن يعمل على إتمام معاملات «لمّ الشمل» بمجرّد أن تتيح له الظروف والقوانين النافذة ذلك. لكنّ العام الحالي نسف تلك الخطط، ودرجت ظاهرة «الهجرة العائليّة» بفعل أسباب كثيرة، مثل صعوبة الوصول إلى مرحلة «لمّ الشمل» التي تتطلّب زمناً غير معلوم، إضافة إلى انخفاض تكاليف السفر عن السابق (بسبب ازدياد الوسائل، وتزايد أعداد المهربين)، في مقابل ارتفاع تكاليف الحياة في سوريا بصورة متسارعة. يقول أبو هاني «آجار بيتنا بالشام صار يعادل 200 دولار في الشهر، أضف إلى ذلك تكلفة معيشة ثلاثة أشخاص كنت أفكر في تركهم ورائي. من سيغطّي هذه النفقات وراتب زوجتي لا يتجاوز 100 دولار؟». ويضيف: «بحسبة بسيطة اكتشفنا أن بقاءهم عاماً واحداً في دمشق سيكلّف ما لا يقل عن 5000 دولار. نستطيع أن نسافر جميعاً بهذا المبلغ. بعد أيام سننطلق، واللي إلو عمر ما بتقتلو شدّة. ادعوا لنا».



«راكبو الموجة» حاضرون دائماً

من الظواهر اللافتة تبرز ظاهرة السوريين المقيمين في عدد من الدول العربية منذ سنوات ما قبل الحرب (في دول الخليج تحديداً) والذين دأبوا أخيراً على ركوب موجة اللجوء. يعمل معظم هؤلاء على الحصول على فيزا تخوّله زيارة إحدى الدول الأوروبية بصفته سائحاً، ثم يتخلّف عن مغادرتها مع انتهاء تأشيرته، ويتوارى فترة تزيد على 6 أشهر كافية لما يُعرف بـ«كسر البصمة»، ثم يُسلّم نفسه إلى السلطات على أنه وصل البلاد بطريقة غير شرعية وينضم إلى اللاجئين. وفي معظم الحالات، فإن رب الأسرة يبقى مستمراً في إقامته وعمله في الدولة الخليجية، فيما تأخذ الزوجة على عاتقها مهمة «اللجوء» هي والأولاد، ريثما تخوّلها الأنظمة القيام بإجراء «لمّ الشمل» للزوج المنتظر.