لم يكن مقدَّراً أن يمضي بعض الصبية بهذه السرعة نحو مربع المخاطر. لكن، يبدو أن ما حصل على الأرض كان أكبر بكثير مما توقعوا، أو ظنوا، حتى لا نقول، خططوا. والنتيجة، أن مجموعة «طلعت ريحتكم» عجّلت في بثّ روائحها غير النظيفة، وهو أمر يستدعي قول الأشياء كما هي.
بداية، بين هؤلاء، من يرفض مشاركة كل الناس في أي تحرك ضد الفساد. قرر هؤلاء أنهم الجهة الصالحة لتعريف الفساد، وتحديد هوية القائمين عليه، وتقدير من يجب مواجهته الآن، ومن يجب تحييده. ثم قرروا أنه ليس للجمهور غير التعاطف. أما السؤال والنقد والتبصر فممنوع. على الأقل، هذا ما تعلّمه هؤلاء في كراريس «الثورات المدنية».
لنرسم المشهد كما هو:
ــــ يفترض بهؤلاء الناشطين أنهم يبحثون عن إطار أوسع، يتسع لجماعات كثيرة، سبق أن دعوها إلى المشاركة في النشاط. لكن، تبين منذ اليوم التالي لإعلان «الثورة» إعلامياً أن الشباب يمزحون. لا، نحن ندعوكم إلى المشاركة في نشاط نقرر نحن شكله وموعده ومكانه وآلياته، ولا ندعوكم إلى المشاركة في اتخاذ القرار.

لماذا رفض الإطار القيادي والهدف السياسي...
هل هي متطلبات المجتمع المدني؟
وعندما تقدم بعض الخلّص لإقناعهم بأهمية المشاركة والإطار، استحوا قليلاً، وقبلوا على مضض. لكن، عندما عقد الاجتماع التشاوري الأول، اكتشف هؤلاء، أن الأمر قد يلامس حد تشكيل إطار قيادي جديد. هنا، ثار الناشطون خائفين على استقلاليتهم... ممن؟
من آخرين يريدون أن يشاركوا في «الثورة»... والنتيجة العملية أن هؤلاء لا يقبلون إطاراً ملزماً. هم لا يمانعون قيام إطار فضفاض، لكنهم لا يتحملون أن يشاركهم أحد في التخطيط والتنفيذ.
ــــ يفترض أن هؤلاء الناشطين يملكون وعياً سياسياً نتج من انخراط معظمهم في تيارات وأحزاب وتحركات، قبل أن ينزل الوحي بضرورة العودة إلى المجتمع المدني. مع ذلك، وافقوا، بداية، على كلام سياسي عام. لكن، أن يصار إلى جعل الحراك الشعبي هادفاً إلى تحقيق نتائج سياسية من شأنها الدفع نحو تغيير فعلي في سياسات الدولة، فهذا من شأنه وقف «كل أشكال الاستعراض» و»سيأتي من يزاحم على الشاشات». لذلك، وجدوا أن توسع المجموعات المشاركة، وتوسع الإطار القيادي، سيقودان إلى ما يظهر لنا الآن، بوضوح، أنه ليس هدفهم. هم يريدون من يجمع النفايات فقط، ومشكلتهم مع الكنّاس أو الزبال. لكنهم ليسوا في وارد خوض معركة قانون انتخابي عادل، وبالتالي خوض انتخابات نيابية، لأن في ذلك ما يقود حتماً إلى ديموقراطية عددية. وفي هذه الحالة هناك خطر، لأن التصويت عبر وسائل التواصل الاجتماعي ينتهي إلى «لايكات» لا إلى أصوات في صناديق الاقتراع.
ــــ يفترض بهذه المجموعات، كما عبّرت هي مراراً، أنها ضاقت ذرعاً بسلطة قمعية وبأحزاب غير ديموقراطية، وأنها تريد التفلت من كل أشكال السلطات الأبوية، وتناضل من أجل حقها في التعبير. لكن، لم تمضِ عليهم أيام في القصر، حتى صاروا يرفضون النقد. كل من يسألهم، أو يستفسر عمّا يفعلون، هو عدو لـ»الثورة»، وهو، حتماً، عميل للنظام يجب إدانته، ورفض أي كلام يصدر عنه. فالشباب لا يزالون في مرحلة العذرية التي تمنع سؤالهم ونقدهم.
ــــ بحسب «بوستات» الناشطين هؤلاء، خلال السنوات الماضية، فهم عانوا من عسس الأنظمة، ومن خفافيش الليل، ومن الملثمين، ومن الذين يخرجون في ليل يضربون ويهربون. ولكن، لم نعرف سر استعجالهم الاستعانة ببرغش صيفي، يعمل على النيل من كل ناقد لهم، أو سائل عن نقاشاتهم، أو باحث عن خلفياتهم. لأنه في هذه الحالة، هو مجرد عدو، يريد نبش الماضي (ولا يقصد بهذا الكلام أسعد ذبيان، الحر بقناعاته، خصوصاً أن زمن محاكم التفتيش ولّى). وإلا، فلماذا لا يظهر على الملأ هذا الذي يعتقد أن من ينتقد بعض ناشطي «طلعت ريحتكم» هو عدو لـ»الثورة» يفترض إعدامه في الساحة إياها؟
ــــ يشكو هؤلاء الناشطون من شخصيات انضمت إلى حراكهم، أو شاركت في اجتماعاتهم، ويلجأون إلى تحقيرها، تارة لأنها غير مأمونة الجانب (لذلك فإن سرية الإعداد للتحركات واجبة)، وتارة لأنها تتكلم بلغة متخلفة (لذلك فإن جلسات النقاش والتمحيص غير مستحبة)، وتارة ثالثة لأنها سبق أن جُربت (لذلك ما تقوله لا يعكس الواقع). وهم عندما يضطرون إلى التحدث صراحة عن هواجسهم حيال فكرة الإطار القيادي الملزم، يردون بأنهم لا يقبلون أن «يفرض علينا أحد طريقة تفكيره، ولو تم التصويت على ذلك بالإجماع أو بالأكثرية». وتكون النتيجة، أن هؤلاء الشبيبة ـــــ الذين يفترض أنهم يناضلون من أجل الإقرار بها كما هي، لا كما يريد الآخرون لها أن تكون عليه – يريدون من الآخرين، كل الآخرين، إما أن يكونوا على صورتهم هم أو أن يذهبوا إلى منازلهم. وطبعاً، هم، يثقون بأحد مقررات دروس «الثورات المدنية» الذي يقول بأن لا حاجة إلى أعداد كبيرة من الجمهور، طالما أنك تملك مكبراً للصوت، على شكل شاشة أو موقع على الفضاء الافتراضي.
لكن الأنكى من كل ذلك، عندما يخرج بعض هؤلاء ليقول: نحن لا نريد لهؤلاء أن يكونوا معنا في الخندق! حسناً. هل هو الخندق الخاص بمواجهة سلطة العملاء لأميركا وإسرائيل والسعودية، وسلطة الفاسدين والسارقين، أم هو خندق الشعار العام، الذي ينتهي به الأمر، على شكل: سلاح المقاومة هو أصل البلاء!