يتجه حلف شمال الأطلسي نحو تجاوز دوره التقليدي في الدفاع عن أوروبا داخل حدودها، إلى القيام بتدخلات عسكرية خارجية استباقية تضعه في المقام الأول، في مواجهة الدول الإسلامية، وذلك تحت ذريعة محاربة الإرهاب وتوفير مصادر الطاقة ومنع انتشار التكنولوجيا النووية، ومحاربة القرصنة البحرية، على ما يظهر من خلال الاستراتيجيّة الجديدة للسنوات العشر المقبلة المزمع إقرارها في قمة الأطلسي اليوم وغداً
بشير البكر
يبدو أن سياسة استهداف الدول الإسلامية بحروب استباقية ستتحول إلى نهج غربي مقنّن في وثيقة «أطلسية»، يفترض أن تصدر عن قمة لشبونة غداً، وتستهدف ضمان أمن الطاقة ومصادرها في العالم، من دون الالتفات إلى ما يمكن أن يُنتجه ذلك من استقطابات حادة على المستوى الدولي وسباق تسلح جديد.
نهج يسعى إلى ترجمة مفاهيم الإرهاب والدول المارقة ومخاطر الهجمات غير التقليدية، التي رسّخها الغرب لتبرير مواجهات انغمس فيها طيلة العقد الماضي، في استراتيجية «أطلسية» جديدة، تأخذ بالاعتبار الثابت والمتحول في عالم اليوم؛ فقادة هذا الحلف الشمالي سيحاولون اليوم الخروج بوثيقة كهذه تتحسّب لاحتمال استهداف القارة الأوروبية بصواريخ غير تقليدية، وتعرضها لاعتداءات إرهابية أو هجمات إلكترونية. ومن أبرز ما في مشروع الاستراتيجية، إمكان خوض عمليات حرب استباقية في أيّ بقعة من العالم، ومواجهة الهجمات الإلكترونية التي قد تستهدف الدول الأعضاء، وتوفير مزيد من الحماية لأوروبا عبر منظومة الدفاع الصاروخي؛ فالحلف، الذي شارك فعلياً في غزو واحتلال دولة خارج أوروبا، أي أفغانستان، يبحث اليوم عن تكريس دور الشرطي العالمي في استراتيجيته الجديدة، وهو تبدّل في عقيدته العسكرية عبر تبنّي خيار الحرب الاستباقية، ما يحول الحلف إلى ظهير عسكري استراتيجي لواشنطن في غزواتها.
ما لم يتوافر التمويل الكافي لهذه الاستراتيجية، فإن الإطلسي يتحول إلى نمر من ورق
وقد درج حلف الأطلسي على وضع استراتيجية عشرية، تكون بمثابة عقيدة وخريطة طريق يسير عليها. وكانت قمته التي عُقدت في واشنطن في سنة 1999، لمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيسه، قد صاغت ما يعرف بـ«استراتيجية المراجعة» التي استمر العمل بها حتى يومنا هذا. وركزت استراتيجية العقد الماضي على مسألة بناء شراكة دفاعية بين الأطلسي وأوروبا، وخلق هوية دفاعية جديدة للحلف، بالاستفادة من دروس التدخل العسكري في حرب البلقان، وضمن رؤية أن أمن أوروبا والولايات المتحدة كلّ لا يتجزأ، ومد نشاط الحلف على كامل القارة الأوروبية بهدف تطويق روسيا واحتواء المخاطر المترتبة على عودتها المتنامية إلى المسرح الدولي. إلا أنّ جهود الحلف الفعلية بعد هجمات 11 أيلول انصبّت على الحرب في أفغانستان، التي لا تزال تمثّل مسألة مفصلية ضمن سياق رؤية الأطلسي لدوره الجديد بعد الحرب الباردة. تلك الرؤية ظلت ترنو بعيداً نحو العالم الإسلامي، بوصفه خزّان التطرف الديني ومصدر التهديد المستقبلي للغرب، إضافةً إلى كونه يمثل أعلى نسبة من احتياطي مصادر الطاقة.
أما الاستراتيجية الجديدة، التي من المقرر أن يعتمدها الحلف في قمة لشبونة في 11 صفحة ورسمتها لجنة من 12 خبيراً برئاسة وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، فتأتي تحت عنوان «تطوير استراتيجية جديدة، التحالف من أجل العقد المقبل». وأصدرت اللجنة توصياتها في تقرير قدمته إلى الأمين العام للحلف أندرس فوغ راسموسين في 17 أيار الماضي.
وتتمحور الاستراتيجية حول جملة من الأهداف تأخذ في عين الاعتبار تحديث القدرات الدفاعية والردعية لقوات الأطلسي، عن طريق إنشاء ما يسمى الدرع الصاروخية، وابتكار تكنولوجيا دفاعية تتصدى لأي هجمات إلكترونية ممكنة عبر الإنترنت، ثم تحديث إدارة الأزمات بحيث تصبح هناك إدارة شاملة، تتضمن جميع العناصر السياسية والمدنية والعسكرية، لتعمل جنباً إلى جنب، وبطريقة تكاملية، نحو هدف واحد. وتركز هذه الاستراتيجية على نقل الحلف من دوره الدفاعي، الذي حدده لنفسه قبل ستين عاماً، وخلال فترة الحرب الباردة على وجه التحديد، إلى مرحلة هجومية خارج حدوده التقليدية. وإن كانت حرب أفغانستان قد مثّلت الاستثناء في الفترة السابقة، فإن العقيدة الجديدة تضع القواعد لعمل الأطلسي خارج حدوده التقليدية، على نحو يتجاوز دوره المرسوم في ميثاقه لجهة الدفاع عن أوروبا داخل نطاقها الجغرافي.
وتضع الاستراتيجية العشرية المقبلة مهمّات الحلف وأهدافه في إطار «التلاؤم مع التهديدات الجديدة»، التي تعرّفها بـ«الإرهاب والمنافسة على مصادر الطاقة وطرق إمدادها، والحرب المعلوماتية والقرصنة البحرية والجريمة المنظمة». وتعتمد الاستراتيجية في صورة رئيسية على «تعزيز الشراكات بين الدول الأعضاء من جهة، وبينها من جهة ثانية وبين الأمم المتحدة والتجمعات الأخرى، الدولية والإقليمية، والهيئات العسكرية والمدنية»، وذلك لتأهيل الأطلسي ليصبح القوة الكونية الأولى، ليس على الصعيد العسكري والأمني فحسب، بل السياسي أيضاً.
من الملاحظ هنا أنّ اتجاه الحلف إلى تغيير عقيدته التقليدية، جاء بضغط أساسي من طرف الولايات المتحدة، التي تعمل جاهدة على جعل توسيع نطاق عمل ومهمات الحلف خارج حدود أوروبا أمر واقعاً، ويترتب على ذلك توسيع حقول تدخلاته العسكرية في المقام الأول، ونشر قواه العسكرية على امتداد الكوكب، ومد مجالات عمله في اتجاه قضايا جديدة كالطاقة والبيئة والهجرة، وحتى الأمن الداخلي للدول، تحت مبررات محاربة الإرهاب والقرصنة البحرية.
اتجاه الحلف إلى تغيير عقيدته التقليدية، جاء بضغط أساسي من طرف الولايات المتحدة
ويرى خبراء أوروبيون أنّ من شأن الاستراتيجية الجديدة أن تزيد من حدة الاستقطاب القائم حالياً بين الشمال والجنوب، وتصعيد وتيرة التوترات الدولية الناشئة في إطار ما يعرف بـ«حرب الحضارات»، وذلك لأن المقصود بتوجه الحلف مستقبلاً هو الدول الإسلامية، بالاعتماد على الحروب الاستباقية، والتدخلات التي تهدف الى فرض رقابة على مصادر الطاقة. وهناك إجماع في أوساط الخبراء على أنّ هذا التوجه سوف تترتب عليه في صورة تلقائية زيادة في موازنات التسلح، وفتح الطريق أمام سباق تسلح جديد، بما فيه في المضمار النووي، إضافةً إلى ابتكار أسلحة ووسائل جديدة للردع. كما أن هناك مخاوف من أن تقود الاستراتيجية الجديدة دول الحلف إلى التراجع عن التعهدات والاتفاقات الخاصة بالحد من انتشار الأسلحة النووية، وخفض عددها، وفق الاتفاقية الأخيرة التي أقرتها في أيار الماضي.
وعلى العموم، هناك منطقتان حيويتان للتعاون تقعان في المدى القريب للاستراتيجية الجديدة، هما المجموعة المتوسطية التي تضم كلاً من الجزائر ومصر والأردن وموريتانيا والمغرب وتونس وإسرائيل. وهناك مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي. في حالة المجموعة الأولى، فإن العمل المشترك قطع أشواطاً كبيرة منذ تأسيسها سنة 1994، وهو يسير على سكّتين سياسية وأمنية، وقد سبق للحلف أن أنشأ مجموعة سياسية سنة 1997 خلال مؤتمره في مدريد، تعمل تحت إشراف مجلس الحلف. وهذه المجموعة تجتمع في صورة دورية على مستوى المستشارين السياسيين لتقويم حالة الحوار المتوسطي ومستقبله. كما عقد الأطلسي سلسلة من الاجتماعات المنتظمة مع مجموعة السبع المتوسطية على مستويات وزارية، لمناقشة الوضع الأمني في منطقة المتوسط في إطار التعاون الدائم، وتبادل المعلومات ووجهات النظر.
يشار إلى أن إجراءات التعاون العملي بين الأطلسي والبلدان الشريكة في الحوار المتوسطي متضمنة في برنامج عمل سنوي للتعاون في ميادين على صلة بالشؤون الأمنية. كما يتضمن البرنامج عقد مؤتمرات ولقاءات مصغرة وفعاليات على مستوى الخبراء. ومن القضايا التي يجري التركيز عليها: الدبلوماسية العامة والإعلام والصحافة والتعاون العلمي والبيئة وخطط طوارئ للدفاع المدني وإدارة الأزمات وأمن الحدود وانتشار الأسلحة الخفيفة وإصلاح الدفاع واقتصاد الدفاع، وكذلك التشاور المستمر في شأن الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل.
وبعدما أدرك الأطلسي أهمية التعاون مع المتوسط بعد أحداث 11 أيلول، جاء في هذا الإطار مؤتمره في إسطنبول سنة 2004، الذي انبثقت عنه مبادرة التعاون مع دول الخليج في إطار تكييف الأوضاع الأمنية والدفاعية في مجال مكافحة الإرهاب. وسيبرز بقوة دور هذه المجموعة في المرحلة المقبلة ضمن مشاريع الحلف الموجهة ضد إيران.
وفي كل الأحوال، فإن العقبة الأبرز هي مسألة التمويل، والسؤال: من هو الذي سيموّل هذه الاستراتيجية في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة؟ الأوروبيون، في صورة عامة، ليس في وسعهم ذلك، فهم أصلاً على درجة عالية من التذمر بسبب الكلفة العالية للحرب في أفغانستان، التي تتجاوز 42 مليار دولار سنوياً. تبقى الكرة في الملعب الأميركي، في وقت تعاني فيه الولايات المتحدة بسبب مصاريفها الهائلة في العراق وأفغانستان.
ما لم يتوافر التمويل الكافي لهذه الاستراتيجية، فإن الاطلسي يتحول إلى نمر من ورق، ويبقى في متاهته التي رسمها لنفسه بعد نهاية دوره بأفول الحرب الباردة.


قمة أوروبية ـ أميركية

تتوج لقاءات لشبونة بقمة أوروبية ـــــ أميركية تُعقد بعد انتهاء أعمال قمة الأطلسي، وحسب المعلومات المتداولة فإنها ستكون مكرسة لدراسة الملفات التقليدية، التي تناقش مرتين في العام بالتبادل بين ضفتي الأطلسي. وقد تأجلت القمة عن موعدها الذي كان مقرراً في آذار الماضي بسبب اعتذار أوباما عن حضورها، وقال إن لديه ارتباطات أكثر أهمية من صرف الوقت في احتفالات جامدة على حد تعبير بعض المقربين منه. ومن القضايا خارج جدول الأعمال التقليدي التي ستناقشها القمة هذه المرة، مسألة المصاعب التي تواجه العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي، وقد تسربت معلومات عن إمكانية حصول مقايضة تقبل بموجبها تركيا بنشر الدرع الصاروخية على أراضيها مقابل حلحلحة العقد العالقة بينها وبينها الاتحاد الأوروبي. وسبق للرئيس الأميركي أن ضغط في هذا الاتجاه خلال قمة الأطلسي في ستراسبورغ سنة 2008، لكي يحصل على موافقة أنقرة على انتخاب راسموسن أميناً عاماً للأطلسي.