منذ 14 آذار 2005 بدأ تيار المستقبل الإيحاء بأن تيار المستقبل القديم شيء، وتيار المستقبل الجديد شيء آخر. في الـ"نيو مستقبل" يلعب المجتمع المدني دوراً أساسياً: "المجتمع المدني" ينظم التظاهرات، ويحمل المتظاهرون أعلاماً لبنانية بدل الأعلام الحزبية.
يقيمون حواجز محبة لتوزيع الورود والبونبون للنائبتين السابقتين صولانج الجميل ونايلة معوض. يلفون رقابهم بفولارات ملونة بدل حمل السواطير. يتقدم الفنانون والممثلون والمطربون صفوف الاعتصامات بدل المناضلين أو المقاتلين السابقين. يرددون أغاني الرحابنة وماجدة الرومي بدل الأغاني الحزبية، ويضيئون الشموع الليلية في زاوية ما، ويحرصون على التقاط صورة يومية لراهبة وشيخ.
ما كادت ثورة الكاميرات والإضاءة والمسرح تنتهي، حتى بات لكل ناشط مستقبلي مفترض جمعية بيئية أو حقوقية أو نسائية، فيما أسست الأمانة العامة لقوى 14 آذار بوصفها المستوعب الرئيسي لكل نشطاء المجتمع المدني الذين يؤيدون مبادئ قوى 14 آذار. وفي ظل فوضى "المستقبل" التنظيمية المطلقة، اتكل الحريريون على هذا "المجتمع المدني" لتنظيم التظاهرات والاحتفالات. وقد سمح هذا القناع السياسيّ المسمى مجتمعاً مدنياً للتيار بالالتفاف على كثير من الإعلاميين والصحافيين أولاً، وعلى النشطاء الحقوقيين والبيئيين ثانياً، وعلى الرياضيين والفنانين والمثقفين ثالثاً، وعلى مجموعات شعبية كثيرة تنفر من الأحزاب رابعاً. لكن بموازاة خروج الإسلاميين عن طاعة الحريريين بعيد أزمة الرئيس سعد الحريري المالية، رفع كثيرون من هذا المجتمع المدنيّ المفترض عن أنفسهم العباءة الحريرية الثقيلة، فيما انتقل بعض وجهاء هذا المجتمع وقادته المفترضين إلى العمل علانية وبشكل واضح ورسمي كموظفين في حاشية الرئيس سعد الحريري.
لقد أسهمت تحركات الأيام القليلة الماضية، في إسقاط قناع إضافي من أقنعة تيار المستقبل. فها هو عضو كتلة "المستقبل" النائب زياد القادري يصف تظاهر بعض اللبنانيين بأنه "عملية انتحار للبلد ومستقبله". وتحذيرات من تظاهرات تهدد الاستقرار والسلم الأهلي. بعدما كان التيار نفسه، يصف إحراق أنصاره سيارات البث المباشر في ساحة عبد الحميد كرامي في طرابلس وقطعوا طرقات في أكثر من منطقة لبنانية، بأنه تعبير ديموقراطيّ جداً.
ملف النفايات "فرعي" في نظر القادري؛ الأهم هو معالجة الفراغ في رئاسة الجمهورية. ففي جمهورية الحريريين يمكن العيش وسط النفايات وتناول وجبة دسمة منها يومياً، لكن لا يمكن العيش دون رئيس جمهورية نزعوا كل صلاحياته. بين النفايات وانتخاب الرئيس، انتخاب الرئيس أساس والنفايات تفصيل. بدوره أشار نائب رئيس تيار المستقبل أنطوان أندراوس إلى أن التحرك في ساحة رياض الصلح " بلا أفق"، مستغرباً أن يكون لكل فريق شعار مختلف عن الآخر؛ لأن المتظاهرين وفق معلومات أندراوس يكونون موحدين عادة في المطالب والشكل واللباس ونبرة الصوت. ولا يحصل في تظاهرات العالم أي شغب. أما الأنكى فهو تبني نائب رئيس المستقبل خطاب الأنظمة البائدة في الدول العربية عن "وجود جهة تستعملهم لغايات أخرى". ورغم وضوح غالبية الجهات المنظمة للاحتجاجات بأن عنوانها الأول هو معالجة أزمة النفايات، عبر أندراوس عن ضياعه بموضوع المطالب، فالشيء الوحيد الذي يسمعه هو إسقاط النظام واستقالة الحكومة ومجلس النواب (لأنه يسمع قناة المستقبل حصراً، على الأرجح).
وعلى غرار بعض المعقدين طبقياً وسياسياً ومذهبياً يقول نائب عاليه السابق إن "حزب الله وراء ما حصل، أنا رأيت (بعينَي ديما صادق) شباناً ينزلون من الخندق الغميق. أما المأساة في حديث هذا العقل المستقبلي النيّر، فهو قوله إنه وحزبه يعرفان "مصلحة الشعب والبلد لا هؤلاء المتظاهرين الذين لا يتعدون البضعة آلاف".
عام 2005 ظهرت الناشطة المفترضة في المجتمع المدني (فرع قريطم) أسما أندراوس على غلاف مجلة "تايم" بوصفها واحدة من 37 شخصاً "أسهموا في تغيير العالم نحو الأفضل". وفي احتفائها بها، أشارت صحيفة "المستقبل" إلى أنها كانت واحدة من قرابة مئة شخص مشوا صوب ساحة الحرية. فحين يكون المئة حريريين يصبحون على دراية تامة بمصلحة الشعب، أما في الحالات الأخرى فهم مجرد غوغائيين "لا يتعدون بضعة آلاف" يستخدمهم حزب الله.
بدوره استغرب عضو كتلة الرئيس فؤاد السنيورة الوزارية نبيل دو فريج هذه الاحتجاجات، خصوصاً أن "المناقصة ممتازة، ولم يتقاسم أحد الجبنة". أما المرتبة الأولى أو جائزة التصريح الأذكى فتذهب للنائب نضال طعمة الذي طالب المجتمع المدنيّ العكاري بالتعقل: "في حال بقاء الأزمة على حالها، ستبدأ الأوبئة ربما من مناطق أخرى، لكن الكارثة ستصل إلينا". وعليه، سواء طمرنا النفايات في أرضنا أو أبقيناها في بيروت، ستصلنا الأوبئة؛ تعالوا نستفد من مئة مليون دولار.
لم ينسَ طعمة تنبيه العكاريين، إلى وجوب أخذهم قوانين الطمر ونسبة الفرز بالاعتبار، قبل اعتراضهم على نقل النفايات إلى منطقتهم، لأن تاريخ السلطة حافل بالسهر على تطبيق القوانين: خذوا سوكلين مثلاً. وفي وقت كانت فيه قوى الأمن تعمل على إزالة الجدار الأسمنتي، كان عضو كتلة المستقبل محمد قباني يدافع عن "التدابير القاسية المطلوبة لحماية المؤسسات من العنف وسياسة الأمر الواقع"، مذكراً محاوره بـ"احتلال الحوثيين القصر الرئاسي في صنعاء وأخذهم الرئيس عبد ربه منصور هادي ومن معه رهائن". ولم يكن ينقصه غير اتهام المتظاهرين بأنهم فصيل حوثيّ. ولا شك في أن تيار المستقبل افتقد في هذه المرحلة الدقيقة مواقف النائب أحمد فتفت الشجاعة. الأخير استدرك قلق اللبنانيين لغيابه في هذا الوقت العصيب، فأرسل من الصين يطمئنهم أنه في زيارة رسمية لجمهورية الصين الشعبية بدعوة من لجنة العلاقات الخارجية في الحزب الشيوعي الصيني.