ارنست خوريبدا واضحاً أنّ شيئاً جديداً حقيقيّاً تغيّر في أسلوب تعاطي الإدارة الأميركية مع الملف العراقي منذ تسلّم الرئيس باراك أوباما وفريقه السلطة في واشنطن. جديدٌ لم يكن ترجمة لقرار بترك «العراق للعراقيين» كدولة سيدة مستقلة عن القرار الأميركي، بل كان عبارة عن أخذ مسافة عن تفاصيل اليوميات السياسية العراقية، على قاعدة إصلاح ما يمكن إصلاحه للصورة الأميركية في العالم، والحد من النفقات المالية والتقرب من العالم العربي والإسلامي. معادلة يمكن اختصارها كالآتي: السماح للعراقيين بفعل ما يشاؤون في توزيع المناصب والمغانم في ما بينهم، ما دام أن هناك في النهاية اتفاقية اسمها «سوفا» تضمن التبعيّة العراقية في السياسة والاقتصاد والأمن إزاء السيد الأميركي.
وقد تكون أبرز مظاهر الابتعاد الأميركي عن اليوميات العراقية منذ انتخابات آذار الماضي تحديداً، تناقُص عدد زيارات المسؤولين الأميركيين إلى بغداد، التي صارت في عهد جورج بوش أشبه بروتين أسبوعي يرمز إلى تبليغ واشنطن «أمر اليوم» لحكام بغداد.
لكن من الواضح أن ما بدا تغيّراً تكتيكياً بين إدارتَي بوش وأوباما تجاه العراق، ليس سوى ضعف الإدارة الديموقراطية الجديدة. هو «ضعف في وضع برنامج يحدّد قوانين لعبة مفاوضات العراقيين الهادفة الى تأليف حكومة جديدة»، على حدّ وصف مصادر أميركيّة شديدة القرب من أروقة صناعة القرار في واشنطن. وهنا تأتي الانتقادات من داخل البيت الأميركي نفسه بما أنّه، على غرار الإخفاق في التعاطي مع الملف اللبناني، «اكتفى المسؤولون الأميركيون بتكرار الكليشيه نفسه: ضرورة تأليف حكومة تضم جميع المكونات العراقية». وكان واضحاً، منذ التحضير لانتخابات آذار، وتحديداً منذ أن اعترضت واشنطن على قرار «اجتثاث» عدد من الرموز «السنية العربية» في «القائمة العراقية»، أنّ إدارة أوباما تفضّل أن يكون إياد علاوي الرجل الأقوى للعراق. لكن، وبما أنّ واشنطن اكتفت بالتكرار اللفظي لإصرارها على علاوي من خلال شعار مبطَّن هو «تمثيل جميع الطوائف والمكوّنات»، فإنّ «إيران فعلت فعلتها لفرض تأييد مقتدى الصدر لنوري المالكي»، وفق المصادر نفسها. وظهر جلياً أنّ الإدارة الأميركية تلقّت صفعة قوية، إذ إنّ موافقة التيار الصدري على التجديد للمالكي جاءت بعدما صدر موقف رسمي أميركي جازم من ناحية رفض أن يكون للصدر مكانة رئيسية في الحكومة العتيدة.
قد يكون الإنجاز الأميركي الوحيد في العراق هو افتراق المجلس الأعلى عن طهران
ومَن تابع التصريحات الأميركية التي واكبت، ولا تزال، مفاوضات الكتل العراقية، يلاحظ حجم التوجس الذي ينتاب عقول الإدارة تجاه الوضع العراقي. فالإدانات المتكررة لـ«التدخل الإيراني» في الشؤون العراقية الداخليّة لم تتزامن مع إدانة للتدخل السوري الذي دعم في البداية خيار إياد علاوي مع البقاء منفتحاً على «كل ما يقرره العراقيون»، قبل أن تنتهي القصة بإجماع سوري ـــــ إيراني على المالكي. ويحلو للبعض اعتبار أنّ الأميركيين تمكنوا من تحقيق إنجاز وحيد طيلة هذه الفترة التفاوضية، وهو افتراق لافت لـ«المجلس الأعلى الإسلامي العراقي» عن طهران. فـ«المجلس»، المعروف بمتانة علاقاته الأميركية كما الإيرانية، خرج عن «الإجماع الشيعي» الذي نسّقته الجمهورية الإسلامية، رغم كل ما حُكي عن ضغوط إيرانية حثيثة على عمّار الحكيم ورجاله.
وبالحديث عن التصريحات والتصريحات المقابلة، يمكن من يرغب ملاحظة التردد الأميركي في دعم الحلفاء العراقيين، والتوقف مليّاً عند اللوم والعتب الكبيرين اللذين لم يملّ علاوي من تردادهما ليصلا إلى البيت الأبيض، كذلك دعواته «إلى إنقاذ العراقيين من التدخل الإيراني الذي يعيث فساداً في المنطقة، من العراق إلى فلسطين وصولاً إلى لبنان».
وتشير المعلومات إلى أن السفير الأميركي المعيَّن حديثاً في بغداد، جيمس جيفري، ونائب الرئيس جوزف بايدن عملا جاهدين لفرض السيناريو الأميركي المثالي، من خلال محاولة إبرام اتفاق تقاسم السلطة، يكون بموجبه علاوي رئيساً للجمهورية والمالكي على رأس الحكومة مجدداً مع تقليص صلاحياته. لكن المصادر الأميركية العليمة بتفاصيل التعاطي الأميركي مع العراق تعرب عن تشاؤمها من إمكان نجاح هذا السيناريو الذي «لا ينال سوى فرصة واحد على ثلاثة للتحقّق»، مع التخوّف من حصول الأسوأ، وهو ولادة حكومة عراقية «خالية من مشاركة سنية عربية فعّالة» تكون أكثر من صديقة لأعداء واشنطن في الخليج العربي.