افتتحت مُدرّبة اللّياقة البدنيّة المشهورة والحائزة على جوائز كثيرة بترا كولبر، عرضها على مسرح TEDx عام 2015 بجملةٍ تُشبه الجمل الّتي يقولها رُوّاد مجموعات دعم مُدمني الكحول: «أنا بترا كولبر، وأنا أتعافى من الكماليّة».
تحدّثت في عرضها مُطوّلاً عن المتاعب الّتي كانت تُسبّبها لها عُقدة الكماليّة (أو عُقدة المثاليّة)، أو ما يُعرف بالـperfectionism، الّتي لم تكن تراها عيباً آنذاك رغم أنّها كانت تُدمّر حياتها. المُشكلة الرّئيسيّة الّتي كانت تتسبّب بها الكماليّة في تلك الفترة من حياتها هي، حسب قولها، غياب البهجة. كانت الكماليّة تخطف البهجة من كُلّ لحظات نجاحاتها وإنجازاتها والفرص الّتي تحصل عليها تحت حجّة أنّها غير كافية، أو أنّ هُنالك خطأً ما، أو أنّها حتّى لو حصّلت أهمّ جائزة فإنّها تعبت أكثر من أقرانها للوصول، ما يعني أنّها ليست «مثاليّة» كفاية. حتّى أنّها كانت ترفض الظّهور في عديدٍ من المقابلات الّتي كانت تُدعى إليها خوفاً من أن لا تبدو مثاليّة، فالصّمت وعدم الظّهور سيحمي صورتها المثاليّة من أن تخدشها هفوةٌ أو خطأ.

(unsplash)

في الواقع، إنّ عقدة الكماليّة هذه ليست حالةً نادرة بل باتت تجتاح فئة الشّباب، تحديداً في السّنوات الأخيرة كالوباء. بل كثيراً ما تُصوّر هذه العقدة كنوعٍ من الامتياز الّذي يجعل الشّخص ناجحاً، فيتباهى بها كثيرون، حتّى أصبحت إحدى الإجابات التّقليديّة في مقابلات العمل عن سؤال نقاط الضّعف لدى المُرشّح. لكنّ العُقدة هذه ليست حسنةً وليست امتيازاً، بل هي آفةٌ يُمكنها أن تقضي على نوعيّة حياة من يقع ضحيّتها، وإن بدت الحياة هذه «مثاليّة» في عيون الآخرين.

ثلاثة أبعاد للكمالية
في أواخر ثمانينيّات القرن الماضي، قام العالمان الكنديّان بول هويت وجوردان فلت بوضع مقياس علميّ لقياس عقدة الكماليّة (MPS: Multidimensional Perfectionism Scale) عبر استمارة يملؤها الشّخص نفسه. استناداً إلى أبحاثهما السّابقة حول هذا الموضوع، حدّد كُلٌّ من هويت وفلت للكماليّة ثلاثة أبعاد أساسيّة:

1- الكماليّة المُنطلقة من الذّات، أي عندما يشعر الفرد برغبة في أن يكون مثاليّاً أينما حلّ ومهما كان دوره وفي كُلّ شيءٍ يكتبه أو يعرضه.

2- الكماليّة المفروضة من المُحيط الاجتماعيّ، أي عندما يشعر الفرد بضغط من مُحيطه الاجتماعيّ لأن يكون مثاليّاً ويمتثل لمعايير غير واقعيّة في ما يخصّ الشّكل الخارجي والإنجازات والتّصرّفات وصورته بشكلٍ عام.

3- الكماليّة الّتي يُسقطها الشّخص على الآخرين، والّتي تتضمّن إلزام الآخرين بمعايير غير واقعيّة للمثاليّة، كالمدير الّذي يُلزم موظّفيه في المؤسّسة بمعايير مثاليّة متطرّفة في عملهم وأدائهم.


تضخّم المعايير وتوسّع الجمهور: الأرقام في ازدياد
وبالرّغم من أنّ هُنالك غزارة في الأبحاث والدّراسات، منذ ثمانينيّات القرن الماضي حتّى اليوم، الّتي تربط بين الكماليّة وبين مجموعةٍ من الاضطرابات النّفسيّة كالاكتئاب واضطرابات القلق والهلع، فإنّه وبحسب أستاذ علم النّفس الاجتماعيّ توماس كيوران وفريقه البحثيّ في كُلّيّة لندن للاقتصاد، الكماليّة المفروضة اجتماعيّاً هي أكثر العناصر ارتباطاً بالاضطرابات النّفسيّة.

والمُثير للقلق فعلاً هو أنّ هذا العُنصر تحديداً هو الأكثر انتشاراً من بين العناصر الثّلاثة، بل إنّه نما بوتيرةٍ مُتسارعة في السّنوات الأخيرة. فبعد أن كانت نسبة الكماليّة المفروضة اجتماعيّاً عام 1989 هي حوالى الـ9% بين الشّباب الجامعيّين، تضاعفت إلى 18% عام 2017. وبحسب توقّعات كيوران وفريقه البحثيّ، فإنّ هذا الرّقم سيصل إلى أكثر من 30% مع عام 2050.

كي نفهم سبب تضخّم هذه الظّاهرة، وسبب تجميلها في وجدان الشّباب اليوم، علينا أن نفهم مصادرها الممتدّة من المدارس ونظام التّعليم إلى العالم الافتراضي ومعايير مواقع التّواصل الاجتماعي «المثاليّة». على سبيل المثال، النّظام التّعليميّ قائم على التّقييم الرّقمي وعبر جداول علامات محدّدة للطّلّاب. هذا يدفع الطّلّاب في فترات مبكرة للغاية، وهي نفسها الفترات الّتي يكونون فيها أكثر عُرضةً لعقدة الكماليّة بهدف كسب رضا الكبار من حولهم، إلى ربط تقييمهم لأنفسهم بالأرقام على شهاداتهم المدرسيّة. تتفاقم هذه الأزمة بشكلٍ أكبر عندما يقوم الأهل، غالباً عن حُسن نيّة، بالاحتفال المُفرط إذا ما رأوا أرقاماً جيّدة، والتّوبيخ الحادّ إذا ما كانت الأرقام هذه منخفضة. نزعة الأهل إلى تبنّي نجاحات وإخفاقات أبنائهم كما لو كانت نجاحاتهم وإخفاقاتهم هم هي نزعةٌ طبيعيّة إلى حدٍّ كبير، ولكن على الأهل محاربتها والحدّ من تأثيرها، فكلّ هذا يُعلّم الأطفال منذ الصّغر، بطريقةٍ غير مباشرة، أنّ الهدف هو تحصيل الصّورة المثاليّة، بالعلامات أو غيرها، ويُعرّض الأطفال لضغوطات تجعلهم عُرضةً لعقدة الكماليّة الّتي ستُلازمهم بعد ذلك لوقتٍ طويل.

السّعي وراء رسم الصّورة المثاليّة أمام الآخرين أمرٌ طبيعيّ، فقد تطوّرنا كمخلوقات لنسعى وراء السّمعة الطّيّبة لدى القبيلة والجماعة. ولكن ما يحدث اليوم هو تضخّم وتنوّع معايير المثاليّة هذه من جهة، وارتباطها بمعايير غير واقعيّة ومُنهكة، وتوسّع «الجمهور» الّذي نُريد أن نرسم الصّورة المثاليّة أمامه فأصبح القرية الكونيّة بعد أن كان القبيلة الصّغيرة من جهة أُخرى.

الـ growth mindset بوجه قلق الخطأ والصورة لدى الآخرين
كأيّ عقدةٍ أُخرى، أوّل وأبسط خُطوة هي ملاحظة وجود عُقدة الكماليّة. إضافةً إلى الجهد الفردي الّذي يجب أن يبذله الشّخص لمواجهة هذه العقدة، يجب أن نخلق ثقافةً مُجتمعيّة ترى الأخطاء كجزءٍ طبيعيٍّ من النّموّ، لا كخلل في الشّخص فتُلاحقه بسوطٍ لإصلاحها، وأحياناً بسوطٍ لمُجرّد وجود أخطاء في تاريخه. يجب أن نخلق ثقافةً مُجتمعيّة تُشجّع «ذهنيّة النّموّ» (growth mindset) الّتي تعطي أولويّة للجُهد والتّطوّر، في مقابل «الذّهنيّة الثّابتة» (fixed mindset) الّتي تصبّ كُلّ تركيزها على النّتائج والأداء الجيّد أو المثاليّ أمام الآخرين.

الكماليّة ثقلٌ يُنهك حامله، مهما بدت صورته برّاقة أمام الآخرين، فحتّى نجاحاته وفرصه اللّامعة مُقترنة دائماً بقلق الأخطاء والهفوات، هذا إن لم يهرب من هذه الفرص خشية أن لا يكون كُلّ شيءٍ مثاليّاً. الأشخاص الّذين يُعانون من هذه العقدة يتعذّبون يوميّاً، مع كُلّ فرصة أو فسحة للكلام أو الكتابة أو المُشاركة أمام الملأ. يختصرون أنفسهم بأخطائهم وعللهم، ويُراجعون كُلّ تجاربهم السّابقة بتوتّر وانزعاج كسيناريوات «كان يجب أن أفعل كذا وكذا» أو «كان ينبغي أن أُجيب إجابةً أُخرى». يعيشون أسرى صورتهم لدى الآخرين، غير مُدركين أنّ هنالك عوامل كثيرة تدخل في تشكيل هذه الصّورة لا سيطرة لهم على أغلبها. كُلّ هذا يعود لعناصر كثيرة ومُتشابكة عوّدتهم على السّعي وراء تجميل وتلميع صورتهم أمام النّاس، أكانوا العائلة أم الأصدقاء أم الجماهير الافتراضيّة، مع غياب ثقافةً مُجتمعيّة، من البيت مروراً بالمدرسة والجامعة وصولاً إلى الإعلام والعالم الافتراضي، تحمي وتُساعد ضحايا الكماليّة على التّعافي.