منذ عام، أعلن الباحثون في معهد «جينر» التابع لجامعة «أكسفورد»، والذين كانوا من متصدّري سباق تطوير لقاح مضادّ لفيروس «كورونا»، أنهم سيسمحون لأي مصنّع، في أي مكان في العالم، بصناعة لقاحهم. ومن التراخيص الأولى لتصنيع اللقاحات التي وقّعوها، آنذاك، كانت مع معهد «سيروم» الهندي، أكبر مصنّع لقاحات في العالم. غير أنه، بعد شهر واحد فقط، وبناءً على توصية من مؤسسة «غيتس» الخيرية، عدّلت «أكسفورد» مسارها ووقّعت اتفاقاً يعطي كامل الحقوق الحصرية لتصنيع اللقاحات وتوزيعها في العالم، لـ«أسترازينيكا»، شركة الأدوية البريطانية ــــ السويدية.

بدورها، أبرمت «أسترازينيكا» اتفاقاً مع معهد «سيروم» الهندي، أوكلته تصنيع لقاحات أفقر البلدان في العالم، والتي يحق لها الحصول على المساعدة بموجب «التحالف العالمي للّقاحات والتحصين» (GAVI)، المدعوم من الدول الغنية ومؤسسة «غيتس».

بمعنى آخر، أوكلت إلى هذا المعهد مهمة تصنيع لقاحات لـ 92 دولة، يساوي عدد سكانها مجتمعين نحو نصف سكان الكرة الأرضية، أو على الأقل، 4 مليارات شخص. وللمفارقة، حين طلبت الهند وجنوب أفريقيا، في وقت سابق، من منظمة التجارة العالمية التنازل مؤقتاً عن براءات الاختراع وغيرها من مظاهر الاحتكارات الصيدلانية بهدف تصنيع اللقاحات على نطاق أوسع لسدّ النقص، كانت دول مثل المملكة المتحدة وكندا والبرازيل، أي الدول نفسها التي طلبت في ما بعد مساعدة الهند لحل مشكلة نقص اللقاحات لديها، أوّل من عارض هذا الطرح.

وحتى اليوم، لم تتخطَّ نسبة المواطنين الهنديين الذين تلقّوا اللقاح الـ 3%، فيما بلغت، على سبيل المثال، نسبة الشباب البريطاني الذي تلقّى على الأقل جرعة واحدة من لقاح مضاد لـ«كورونا» 50%.

«سيروم» يوقف تصدير «أسترازينيكا»
وتوازياً مع هذه الظاهرة، شهدت الهند، الدولة الثالثة الأكثر تضرراً من الوباء، طفرة جديدة في عدد الإصابات بين سكانها، لا تزال مستمرة حتى اليوم. فأظهرت، مثلاً، بيانات صادرة عن وزارة الصحة الهندية، بداية هذا الأسبوع، ارتفاعاً يومياً، هو الأكبر منذ بدء تفشي الوباء، وصل إلى 103 آلاف و558 حالة، ليرتفع بذلك العدد الإجمالي للإصابات إلى 12.59 مليوناً. وفاق عدد الوفيات الـ 165 ألفاً و101 حالة حتى الآن.

إثر ذلك، أعلنت الحكومة الهندية، منذ أيام، توسيع برنامجها المحلي للتطعيم ليشمل 345 مليون شخص، من عمر 45 وما فوق، وأوقفت، بالتالي، جميع عمليات تصدير اللقاحات لتلبية حاجاتها. وتحتاج الحكومة، حالياً، إلى 630 مليون جرعة أخرى لإتمام مهمتها. وقد تمّت الموافقة على استخدام لقاح آخر، في البلاد، هو «كوفاكسين»، إنما يجري، حالياً، إنتاجه واستخدامه بكميات أقل. ومع الموافقة على استخدام المزيد من اللقاحات، قد ينخفض الضغط على «سيروم» مستقبلاً. إنما في الوقت الحالي، لن يكون أمام الهند إلا هذا المورد الوحيد لتحقيق هدفها المناعي، ما يضع «سيروم» أمام خيار خيالي: إمّا التخلي عن الدول الـ 91 التي تنتظر لقاحاته، أو خذلان حكومة بلاده، وعلى الأرجح، يلجأ المعهد حالياً إلى الخيار الأوّل.

نحو اللقاحات الصينية والروسية
بحسب صحيفة «ذا غارديان» البريطانية، أنتج «سيروم»، حتى الآن، 28 مليون جرعة تابعة لمبادرة «كوفاكس» التي تهدف إلى تأمين التوزيع العادل للّقاحات في الدول المتوسطة والفقيرة في العالم، وقد أخذت الهند 10 ملايين جرعة منها للاستخدام المحلي، وتمّ شحن ثاني أكبر عدد منها، البالغ 4 ملايين جرعة فقط، إلى نيجيريا، وهي تكفي لتغطية 1% فقط من مجمل سكانها. وخطوة الهند الحالية، ستؤخر، حتماً، الصادرات المستقبلية إلى نيجيريا وغيرها من الدول حتى شهر تموز كحدّ أدنى.

أمّا شبكة «بلومبيرغ»، فأوضحت تأثيرات الخطوة الهندية على مبادرة «كوفاكس» في بعض البلدان النامية الأخرى. ففي باكستان مثلاً، والتي من المقرر أن تتلقى نحو 45 مليون جرعة عبر «كوفاكس»، تأخرت الجرعة الأولى التي كانت مقررة في شهر آذار، «إلى أجل غير مسمّى»، بحسب ما أفاد، الأسبوع الماضي، وزير التخطيط في البلاد، أسعد عمر. كذلك، قالت ممثلة «اليونيسف» المحلية، رانا فلاورز، إنّ فييتنام، التي وعدت بالحصول على 1.37 مليون جرعة في أواخر آذار، ستحصل على 811 ألفاً و200 جرعة فقط في غضون الأسابيع الثلاثة المقبلة. الجدير ذكره أنّ التأخير حاصل فقط في لقاحات «أسترازينيكا» التي يصنّعها «سيروم»، لا اللقاحات الأخرى كـ«فايزر» مثلاً، بحسب «بلومبيرغ».

تركت مشاكل «كوفاكس» البلدان النامية، التي كان بعضها يعتمد اعتماداً كلياً على هذه المبادرة، تتدافع لتعويض خسائرها وتأمين اللقاحات من تلقاء نفسها. وفي هذا الإطار، ترى «ذا غارديان» أيضاً أنّ حال الصناعة الصيدلانية في الغرب والتي بالكاد تكفي لتلبية متطلباته، دفعت بعدد كبير من البلدان إلى اللجوء إلى اللقاحات الصينية والروسية لتعويض النقص.
الدول الغنية تلقّح شخصاً كل ثانية، فيما سكان معظم الدول الأكثر فقراً لم يتلقّوا أيّ جرعة بعد



وطبعاً، ليست هذه المرة الأولى التي تبدو فيها هذه البلدان متروكة في الخلف، فحين كانت اللقاحات في طور التجارب السريرية، حجز عدد من البلدان لقاحات تساوي أضعاف السكّان فيها. فعدد اللقاحات التي حجزها الاتحاد الأوروبي مثلاً، في ذاك الوقت، تكفي لتطعيم سكّانه مرّتين، وتكفي بريطانيا والولايات المتحدة لتطعيم سكانهما أربع مرات، أمّا كندا فحجزت من اللقاحات ما يكفي لتطعيم سكانها ست مرات، بحسب تحليل أجرته صحيفة «نيويورك تايمز» في منتصف كانون الأوّل الماضي. وقبل تعثّر مبادرة «كوفاكس» حتى، أشار تقرير صادر عن الأمم المتحدة، الشهر الماضي، إلى أنّ الدول الغنية تلقّح شخصاً كل ثانية، فيما سكان معظم الدول الأكثر فقراً لم يتلقوا أي جرعة بعد، ما زاد من انفتاح الدول والشعوب وشجّعهم على التنويع في اللقاحات.

في هذا الإطار، يحذّر الخبراء الاقتصاديون والصحيون من أنّ تعافي العالم من تبعات «كورونا» لن يتمّ في حال تُركت البلدان الفقيرة بلا لقاحات. وقد جدّد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الاثنين، التأكيد أن استمرار «الاتجاه الخطير لاستئثار كل دولة بلقاحات كورونا وتخزينها سيؤخر التعافي العالمي». كما أشار باحثون في دراسة نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أنّه حتى في السيناريو الذي تقوم فيه البلدان النامية بتلقيح «نصف سكانها» بحلول نهاية العام الحالي، ستبلغ قيمة الخسائر التي سيتكبدها الاقتصاد العالمي بين 1.8 و3.8 تريليونات دولار، وسيتركز أكثر من نصف التبعات الأليمة لهذه الخسائر في البلدان الغنية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، حتى لو تعافت من الوباء، في اقتصاد عالمي مترابط إلى هذا الحد.

كيف يبدو الإقبال على اللقاحات الروسية والصينية؟
وبعيداً من الحرب الكلامية حول اللقاحات والاتهامات المتبادلة، يتيح لنا عجز مبادرة «كوفاكس» عن تحقيق أهدافها، حتى الآن، والضعف الأوروبي بعد فشل الاتحاد الأوروبي الأخير في تحقيق أهدافه المناعية في الربع الأوّل من حملة تلقيحه، فهم جزء كبير من أسباب التفات الدول الفقيرة، والمتقدمة حتى، إلى اللقاحات الصينية والروسية خلال المرحلة الصحية الأخطر التي يشهدها هذا العصر.

فالبرغم من التشكيك الغربي، أصبح اللقاح الروسي «سبوتنيك-في»، الذي كان أوّل لقاح مضادّ لـ«كورونا» يُطوّر بسرعة قياسية، معتمَداً في أكثر من 50 دولة حول العالم، بحسب الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة. وتساعد في ذلك، بلا شكّ، فعالية هذا اللقاح الذي يجري التطعيم به على جرعتين، والتي وصلت إلى 91.6% حسب نتائج الاختبارات السريرية التي أكدتها مجلة «لانسيت» الطبية أوائل شباط، مع حماية بنسبة 100% من الحالات الخطرة.

من جهتها، أعلنت المتحدثة باسم الخارجية الصينية، هوا تشون يينغ، الثلاثاء الماضي، أنّ الصين تزود 80 دولة وثلاث منظمات دولية بلقاحات مضادة لـ«كورونا»، وتصدّر اللقاحات إلى أكثر من 40 دولة، وتتعاون مع أكثر من 10 دول في ما يتعلق بإجراء أبحاث حول اللقاحات وتطويرها وإنتاجها في الوقت الحالي. وفي إطار حديثها، ندّدت بامتلاك دول يشكّل تعداد سكانها نحو 16% من إجمالي سكان العالم، 60% من اللقاحات المتاحة فيه، مؤكدة معارضة الصين مسلك «قومية اللقاحات» غير الأخلاقي وغير المسؤول، والذي يستمرّ في خلق «فجوة مناعية» في العالم.