في القرن الرابع عشر، كان يُطلب من السفن القادمة إلى ميناء مدينة فينيس الإيطاليّة أن «تنحجر» مدّة أربعين يوماً قبل أن ترسو وتُنزل حمولتها. كان الهدف من هذا حماية سُكّان المدن الساحليّة من وباء الطّاعون الذي كان يفتك بالمُدن الأوروبية. ومن هنا جاء مُصطلح «الكوارنتين» أو الحجر الصحّي، من quaranta giorni الإيطاليّة والتي تعني أربعين يوماً.
عندما بدأ «الحجر الصحّي» وتدابير الإقفال العام الماضي حول العالم بهدف احتواء موجة الوباء الجديد، لم تكن معروفة المدّة المتوقّعة لهذه التدابير (ولو بوتيرةٍ متقطّعة). لكنّ الوجدان الشعبي عموماً لم يكن يتوقّع أن يعدو الأمر بضعة أسابيع ونعود بعدها إلى حياتنا الطبيعيّة بـ«تقاربها» الاجتماعيّ المُعتاد. إلّا أنّ مُدّة الحجر وتدابير الوقاية وإرشادات التباعد كانت أطول ممّا توقّعنا، ولا تزال مُمتدّة دون أفق واضح، نظراً إلى أنّ توزيع اللقاحات يجب أن يجري بكمّيات ضخمة على نسبة كبيرة من الناس كي نقول إنّنا اقتربنا من نهاية «عصر الحجر الصحّي». والمُؤكّد أنّ تغيّراً طارئاً بهذه الجذريّة ولهذه المدّة له آثاره وتداعياته الاجتماعيّة وحتّى البيولوجيّة على أجيال «الكوارنتين». وكُلّما طالت هذه المُدّة، ترسّخت هذه الآثار وازدادت تشعّباً.

من أبرز التغيّرات التي فرضتها إجراءات الإقفال والحجر الصحّي هي انتقال التعليم والمُحاضرات إلى المنصّات الرقميّة. حوّل الحجر الصحّي العالم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، إلى قريةٍ صغيرة ــــ أونلاين، يُمكنك فيها أن تُشارك في مؤتمرات عالميّة مرتاحاً من منزلك. وأكثر من ذلك، يتوقّع جزء كبير من الأكاديميّين أنّ التعليم والعمل لن يعودا كالسابق بالكامل، فالمنصّات الإلكترونيّة ستصبح رديفاً للتعليم الحضوري أو اجتماعات العمل. فمن الذي سيوافق بعد اليوم على أن يعلق في زحمة سير للوصول إلى اجتماع بعدما اكتشف أنّ هذا الاجتماع كان يمكن بالفعل أن يكون «إيميل»؟!

من ناحية أُخرى، للتعليم أونلاين سلبيّاته أيضاً غير المتعلّقة فقط بالمادّة التعليميّة نفسها. التلامذة اليوم عندما يلتقون، يقومون بذلك كجزء من حصّة مؤقّتة للدّرس فقط، فلا يوجد «فرصة أونلاين» أو استراحات للمُشاغبة واللّعب وحتّى المشاكل بين الطلّاب. لهذا أيضاً تبعاته، فهذه الفُرص التي لم تعد موجودة، هي زبدة أيّام الدراسة، ولها دورٌ كبير في تشكّل وتحفيز وتطوير مهارات الطفل الاجتماعيّة والقياديّة ونموّ ذكائه العاطفيّ.
من جهةٍ أُخرى، للتعليم أونلاين تبعاته على شكل الأسرة وأدوار أفرادها. يُثير بعض علماء الاجتماع أنّ للوباء تداعيات ملحوظة على الأدوار الجندريّة داخل الأُسرة، وعودتها إلى التقسيم التقليدي. بفعل إجراءات الإقفال وتداعياته الاقتصاديّة، نسبة أكبر من النساء، مقارنة بالرّجال، خسرن وظائفهنّ في عام 2020، ويعود هذا بشكل أساسي إلى أنّ نسبةً أكبر من النساء يعملن في القطاعات الخدماتيّة التي تأثّرت أكثر من غيرها بسبب خسارتها للمستهلكين. بالإضافة إلى ذلك، في استطلاعٍ للرأي أجرته مؤسّسة «سينديو» حول تأثير الحجر وإجراءات الإقفال على المساواة الجندريّة في مجال العمل، أظهر الاستطلاع أنّ نسبةً أكبر من النّساء، مقارنة بالرّجال، شعرن بمسؤوليّة مباشرة أن يتركن عملهنّ ليتفرّغنَ للمسؤوليّات والأعباء الجديدة المترتّبة بفعل إقفال المدارس ودور الحضانة. لذلك، يُحاجج البعض أنّ تداعيات الوباء والحجر الصحّي وإجراءات الإقفال ساهمت في تراجع الأدوار الجندريّة إلى أشكالٍ أكثر تقليديّة، ورواسب هذا التحوّل لن تختفي عند فتح البلاد مجدّداً.
جيل الحجر الصحّي سيفتقد التعرّض لجراثيم مهمّة لنموّ الجهازَين العصبي والمناعي



أثّر الوباء أيضاً على العلاقات الاجتماعيّة والتواصل المُباشر. فبالرّغم من أنّ توصيات ارتداء الكمامات كانت متقلّبة في الموجات الأولى للوباء، إلّا أنّ التوصية الثابتة منذ البداية كانت «التباعد الاجتماعي». لهذا التباعد تداعيات كبيرة على العلاقات بين الأفراد والعائلات وصحّتهم النفسيّة، وخصوصاً في المُجتمعات الشرقيّة والتقليديّة التي لا تزال تعتمد بشكلٍ كبير على الاجتماعات الكبيرة في الأعياد والأفراح والعزاء. حتّى إنّ لمُصطلح «التباعد الاجتماعي» نفسه ثقلاً، حيث يُشعر الناس بالعزلة والوحدة، وخصوصاً عندما يمتدّ استخدامه والتوصية به لأكثر من عام (حتّى الآن). وقد حاولت منظّمة الصحّة العالميّة تدارك الأمر، فاستبدلت مُصطلح «التباعد الاجتماعي» (social distancing) بمُصطلح «التباعد الجسدي» (physical distancing) بناءً على توصيات لجان الصحّة النفسيّة، إلّا أنّ المُصطلح الأوّل كان قد أصبح متردّداً على كُلّ لسانٍ وإعلان، والمسافة لا تُقرّب بالمصطلحات.

حتّى من الناحية البيولوجيّة، فإنّ جيل الحجر الصحّي سيفتقد التعرّض لجراثيم مهمّة لنموّ الجهازين العصبيّ والمناعيّ. التعرّض للجراثيم غير المُسبّبة للمرض (non-pathogenic microbes)، وخصوصاً لدى فئة الأطفال والمُراهقين الذين لا يزال جهازهم المناعيّ والعصبيّ قيد التّشكّل، مهمٌّ للغاية، وأكثر تعقيداً من مجرّد «تجنّب الأمراض». التعرّض للبكتيريا والفيروسات غير المُسبّبة للمرض الذي يحصل من خلال التفاعل الطبيعي مع أطفال آخرين، أو عبر اللعب في الحديقة أو الملاعب، أو عبر التعرّض لكلّ المساحات الطبيعيّة غير المُعقّمة، يُساعد الجهاز المناعيّ في نموّه ويُهيّئه لمواجهة الفيروسات المتوقّعة في المستقبل. ففي مقالتهم العلميّة حول الأبعاد التطوّريّة لوباء كورونا، يُحاجج سيتز وآخرون أنّ تداعيات عدم التعرّض للجراثيم بسبب الحجر الصحّي لا تزال غير واضحة المعالم، ولكنّها ستعتمد بشكلٍ أساسي على أمرَين: مُدّة الحجر التي كُلّما طالت ازدادت معها تداعيات غياب هذا التعرّض، والمرحلة العمريّة للأفراد.

لكلّ جيلٍ حُمولته الخاصّة، وصعوباته المرتبطة بظروف مرحلته، ولأجيال «الكوارنتين» صعوباتهم الخاصّة أيضاً التي فرضتها علينا الإجراءات الوقائيّة للحماية من هذا الوباء. كُلّما طال هذا الحجر، ترسّخت بصمته على أجياله. لا تزال ملامح المُستقبل ما بعد الحجر غير معلومة، وقد تبدو بعض الظواهر المُلاحَظة أو التوقّعات العلميّة لرواسب الحجر الصحّية تشاؤميّة، لكنّ المُستقبل لا يُرسَم بالظروف والأزمات فقط، بل بالقرارات والأفعال أيضاً، وبالتقدّم من بعدها، أو على الأقلّ هذا ما يوحيه تاريخ أسلافنا التطوّري.