اتّسمت إدارة «داعش» للملف النفطي بالدقّة وحسن التخطيط والتنفيذ، شأنها شأن معظم الملفات، الأمر الذي ميّزه عن كل المجموعات المسلّحة الأخرى. وعلاوة على الدعم الاستراتيجي التركي، فقد عمد التنظيم في المرحلة الأولى إلى كسب العشائر المحليّة في صفّه، الأمر الذي سهّل سيطرته على دير الزور. الموفدون «الأمنيون» الذين سبقوا جحافل التنظيم إلى المحافظة كانوا قد نجحوا في عقد صفقات بصورة «بيعات» مع عدد من الزعماء العشائريين في المحافظة. وكان أساس هذه الصفقات إدخال العشائر بوصفهم «شركاء» في الملف النفطي، لا مجرّد «خفراء» كما حاولت الحكومة السورية أن تفعل ولا «مؤجّرين» كما فعلت «النصرة». وعوضاً عن تقاضي كبرى العائلات مبالغ ثابتة في الحالتين، أغرى موفدو التنظيم الزعماءَ العشائريين بالحصول على نسبٍ كبيرة من عائدات النفط، كما على مناصب «رفيعة». أثمرت هذه الصفقات قيام العائلات والزعامات العشائرية بـ«شق عصا الطاعة» ونقض الاتفاقات مع «النصرة» وحلفائها، ووصل الأمر إلى حدّ اندلاع معارك عنيفة بين الطرفين في كثير من المناطق (راجع «الأخبار»، العدد 2278). لم يلبث التنظيم بعد استتباب سيطرته أن تخلّص من كثير من شركائه العشائريين، ليعهد لاحقاً بإدارة الملف النفطي بشكل كامل إلى «ديوان الركاز». مساران أساسيان انتهجهما التنظيم لتسويق النفط: خارجي عبر الحدود التركيّة والعراقيّة، وداخلي إلى مناطق سيطرة المجموعات المسلّحة الأخرى. على المسار الداخلي أيضاً، حافظ التنظيم لفترة على التعامل مع «شركات محليّة» كانت موجودةً قبل سيطرته، واستمرّت بعدها، ولعبت دور وسيط لإمرار النفط إلى مناطق سيطرة الدولة السورية. ورغم أنّ النقل بالصهاريج كان على رأس الوسائل المتبعة لنقل النفط، غير أن مصدراً «نفطيّاً» يعمل تحت إدارة «داعش» يؤكّد لـ«الأخبار» أنّ التنظيم «بحثَ عن وسائل أخرى، تحسّباً لتعرّض القوافل للاستهداف (كما حصل أخيراً)». يُعتبر مد الأنابيب عبر الأنهار إحدى أبرز الوسائل التي طوّرها التنظيم، مكرراً بذلك ما سبقته إليه «جبهة النصرة» وحلفاؤها. كانت الأخيرة تعتمد في الدرجة الأولى على نقل النفط المُستخرج إلى ريف إدلب، ليسلك بعدَها مسار «حارم، سلقين، دركوش، الأراضي التركية» عبر أنابيب ممدودة في نهر العاصي، بالاتفاق مع المافيات التركيّة على الطرف الآخر. وهو ما حافظَ عليه «داعش» عبر اتفاقات مع المجموعات المسيطرة في إدلب، رغم الحرب المُعلنة بين الطرفين «هذا نوع من أنواع التجارة البينيّة» يقول مصدر مرتبط بالتنظيم لـ«الأخبار». ووفقاً لمصادر عدّة، فقد عمد «داعش» إلى استغلال الأنهار التي يستطيع الوصول إليها لهذه الغاية، مثل الخابور، والفرات، والبليخ. في حالة الخابور، يتطلّب الأمر أحياناً التنسيق مع الأكراد، وفي حالة البليخ يتطلّب النقل مراحل مائيّة وبريّة. وفي كل الأحوال، تبدو المافيات قادرةً على تولي مهمات التنسيق وتحييد النفط عن الصراعات. كذلك، تشكّل الحدود العراقيّة وجهةً أساسيّة للنفط السوري، ويقوم التنظيم ببيع النفط «في أرضه»، بينما تتولى المافيات نقله نحو أراضي إقليم «كردستان العراق» ليُصار إلى «تبييضه» ونقله عبر خط أنابيب كركوك، يمورطاليك. وسعياً إلى التقليل من استخدام الصهاريج ما أمكن، فقد عمد «داعش» إلى مد أنابيب «عابرة للحدود» تحت الأرض، (في حالة الآبار المحيطة بمدينة البوكمال الحدودية).
من بين الأسطول الذي ينقل النفط صهاريج تحمل لوحات تركية

«التمويه الانتحاري»
ووفقاً لما تكشفه مصادر محليّة لـ«الأخبار»، فإنّ أحدث خطط «داعش» لنقل النفط بواسطة الصهاريج هي خطة «التمويه الانتحاري». وتعتمد هذه الخطة على تسيير قوافل وهميّة تحوي صهاريج خاليةً ويقودها «انتحاريّون» بغية حرف الأنظار عن قوافل أصغر (تضم كلٌّ منها من 3 – 5 صهاريج مليئة)، مع الحفاظ على تسيير القوافل ليلاً. وتنطلق الأخيرة في توقيت متزامن، لتسلكَ مساراً مختلفاً. أبرز سلبيّات هذه الطريقة وفقاً لتقييمات «داعش»، هي تكاليفها المادية المرتفعة في حال تعرض الصهاريج للقصف. أمّا التكلفة «البشرية» فهي غير واردة في الحسابات، إذ إنّ «المجاهدين الذين يقودون الصهاريج الخالية إنّما خرجوا بحثاً عن الشهادة، شأنهم شأن أي انغماسي يقضي في الغزوات» طبقاً للمصادر ذاتها.

سيطرة «داعش» النفطيّة
يسيطر تنظيم «داعش» على ما يُقدّر بـ 90% من النفط في سوريا. أهمّ الحقول الخاضعة له حقل العمر النفطي (15 كلم شرقي بلدة البصير)، حقل التنك في بادية الشعيطات، حقل الورد بالقرب من قرية الدوير، حقل التيم (10 كلم جنوب مدينة دير الزور)، حقل الجفرة (25 كلم شرق مدينة دير الزور)، محطة نفط الخراطة (20 كلم جنوب غرب مدينة دير الزور)، محطة نفط ديرو (40 كلم شمال غرب مدينة دير الزور)، ومحطة T2 على خط النفط العراقي السوري. كما يسيطر التنظيم على الآبار النفطيّة في الرقّة، وأبرزها عكيرشة والزملة والطبقة وما حولها وحقل الثورة، وحقل كونيكو. أما في الحسكة، فيسيطر على حقول الشدادي والجبسة والهول (وجميعها في الريف الجنوبي). فيما تبادل «داعش» والدولة السورية السيطرة على حقول النفط في حمص (وأبرزها جزل والشاعر) مرّات عدّة، في ظل استمرار الكر والفر بينهما في المنطقة.

الأكراد حاضرون أيضاً
تسيطر «وحدات حماية الشعب» الكردية (YPG) على الآبار النفطيّة التابعة لمديرية حقول رميلان في ريف الحسكة (حوالى 1300 بئر، علاوة على 24 حقل غاز). وتتولى شركة «توزيع محروقات الجزيرة» (KSC) مهمات استخراج النفط الخام، وتكريره وتسويقه. وتمتلك «محروقات الجزيرة» مصافي كهربائيّة لتكرير النفط، يتركّز معظمها في منطقة تل عدس (10 كلم شرق رميلان). كما تسيطر «YPG» على معبرَ اليعربية مع الجانب العراقي. وتشير تقارير إعلاميّة مُعارضة إلى أنّ «الإدارة الذاتيّة» تقوم بـ«تصدير حوالى 70 ألف برميل يوميّاً إلى كردستان العراق».





قبل... وبعد
تنتج الآبار السوريّة نوعين من النفط الخام: ثقيل (يتركّز في حقول الجزيرة)، وخفيف (وهو الأسهل تكريراً، ويتركّز في دير الزور). قبل الأزمة، كانت البلاد تستهلك حوالى 45% من إنتاج النفط الثقيل وتصدر الباقي، وتستهلك حوالى 33% من النفط الخفيف وتصدّر الباقي. وحسب تقرير الطاقة العالمية الذي تصدره شركة «BP»، بلغ إنتاج سوريا من النفط عام 2010 ما نسبته 0.5% من الإنتاج العالمي. كما قدر التقرير احتياطي البلاد النفطي بحوالى 2.5 مليار برميل، تمثل 0.2% من إجمالي الاحتياطي العالمية، وتقارب احتياطي بريطانيا. ووفقاً للبيانات الحكومية، فقد بلغ متوسط الإنتاج الرّسمي في عام 2010 حوالى 386.000 برميل يومياً وبزيادة 9407 براميل يومياً عن عام 2009. وتقدر تقارير اقتصاديّة غير رسميّة أن الإنتاج انخفض في عام 2011 إلى حوالى 378.000 برميل يوميّاً. التدهور بدأ عام 2012 حيث تهاوى متوسط الإنتاج إلى 42.000 برميل يومياً، ثمّ 31.500 برميل يوميّاً عام 2013، و14.000 برميل يومياً عام 2014، وحوالى 9000 برميل يوميّاً في عام 2015. كان الإنتاج يشكل نحو 24% من الناتج الإجمالي لسوريا البالغ 60 مليار دولار في عام 2010) و25% من عائدات الموازنة و40% من عائدات التصدير.





الخسائر تجاوزت 50 مليار دولار
في تشرين الأوّل الماضي، أعلن وزير النفط السوري سليمان العبّاس أنّ خسائر قطاع النفط السوري حتى نهاية شهر أيلول «تتجاوز 50 مليار دولار». كلام العباس جاء خلال اجتماعات للمؤسسات والشركات التابعة للوزارة، وفقاً للموقع الإلكتروني الرّسمي للوزارة. العباس أوضح أن الخسائر المذكورة هي الخسائر المباشرة الناجمة عن «تعدّيات التنظيمات الإرهابية المسلحة»، فضلاً عن «الخسائر المادية الناجمة عن ضربات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة» والتي «استهدفت بشكل مباشر بئري الطابية 202 و301 وبئر السيجان 146 في محافظة دير الزور ومحطة العمر لمعالجة وتصدير النفط، ما أدى إلى أضرار مادية كبيرة وخاصة في الأبنية ومعدات الضخ الرئيسية». كما أشار إلى أن «إجمالي النفط المنتج في سوريا حتى نهاية الربع الثالث لعام 2015 والمسلم للمصافي بلغ 2.644 مليون برميل بمعدل إنتاج وسطي 9688 برميلاً يومياً». وفي وقت سابق، كان العبّاس قد أوضح خلال لقاء صحافي مع صحيفة الوطن المحليّة أن «مجموع ما سرقته العصابات الإرهابية المسلحة من بداية الأزمة حتى منتصف هذا العام يزيد على 43 مليون برميل نفط (...) وبلغ عدد شهداء النفط 163 شهيداً و151 جريحاً و127 مخطوفاً».




خبرة تركيّة ــ كرديّة «تاريخيّة»
ليست الحرب السوريّة الاختبار الأوّل الذي أثبتت فيه السلطات التركيّة براعتها في رعاية عمليات تهريب النفط. على امتداد سنوات الحصار على العراق، تحدثت عشرات التقارير عن عمليات مماثلة عرف خلالها النفط العراقي طريقَه إلى تركيّا خارج برنامج «النفط مقابل الغذاء». تقرير لـ«نيويورك تايمز» منتصف عام 1998 أكد أن «الولايات المتحدة تتغاضى عن تهريب ملايين الأطنان من النفط والوقود إلى تركيا». وكشف أن «عمليات التهريب تتم بواسطة مئات من الشاحنات عبر طريق تخضع لسيطرة طلعات جوية لطائرات التحالف الغربي». كما أكّد أنّ «الأكراد في شمال العراق يستفيدون أيضاً (...) وعلى رأسهم مسعود البرزاني الذي يكسب ملايين الدولارات». بدوره، أفاد تحقيق ميداني لوكالة «أسوشييتدبرس» في عام 2002 بأنّ «أكثر من 80 ألف برميل من النفط الخام العراقي يجري نقلها يومياً إلى تركيا بواسطة الصهاريج عبر نقطة الخابور، علماً بأن موظفي الأمم المتحدة يعبرون من تركيا الى العراق عبر هذه النقطة أيضاً». معظم التقارير التي تناولت عمليات التهريب كانت قد أكدت أنّ «الإدارة الأميركية (بوش الأب، ثم كلينتون) تتغاضى عن العمليات، رغم أنها تفيد الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين» بهدف «مساعدة تركيا على تعويض خسائرها» من حرب الخليج. ووفقاً لـ«نيويورك تايمز»، فقد علّق أحد مسؤولي الإدارة الأميركية حينها «صدّام يكسب، لكن الأتراك والأكراد يكسبون أيضاً».