اشتد المرض على خنساء، المعلمة من مدينة الرقة واللاجئة إلى تركيا. ضمّت طفلها الوحيد وأوصت أهلها بأن يدفنوها في مدينة أورفا التركية، وألا يعذبوا جثمانها بالنقل عبر ممرات التهريب، ويتكلفوا الكثير من أجل نقلها إلى مسقط رأسها.
فارقت الحياة بعد أن لفظت آخر كلماتها. لا خيار أمام أهلها سوى مخالفة الوصية. لكن لم يكن الطريق سالكاً عبر الحدود، فاشتروا لها قبراً ودفنوها في مقبرة أورفا، بعد أن حصلوا على موافقة الجهات الرسمية.
تحسنّت أوضاع الطريق باتجاه الرقة بعد شهر، فأصرّت والدتها على فتح القبر ونقل جثمانها إلى مقبرة العائلة. لم يعلم إخوتها أنهم فتحوا قبراً غير قبرها، ونقلوا جثماناً آخر ودفنوه في مقبرة عائلتهم، إلا بعد أن تهجّم عليهم أبناء المرأة السورية التي نقلوا جثمانها ظناً منهم أنه عائد لأختهم. وانتهى الخلاف بصلح عشائري بين الطرفين.
يقول خليل، شقيق خنساء: «ليس سهلاً على الإنسان أن يدفن ميّته بعيداً عن موطنه الأصلي. لا بد أن يأتي يوم نرجع فيه إلى الرقة، ولن نترك قبورنا عند الأتراك، فقد ينبشونها انتقاماً إذا انتصرت سوريا وخرجت من محنتها. سنبقى إلى جوار خنساء، وسنأخذها معنا حين نعود. لن نتركها هنا وحدها».
ويتابع: «اخطأنا في القبر، ونقلنا جثمان سيدة أخرى، والحمدلله تمت تسوية الخلاف والصلح مع أولادها، وتفهّموا موقفنا، وأخبرونا أن وصية أمهم كانت أن يدفنوها في سوريا، لكن الظروف لم تسمح بنقلها. يبدو أن الله حقق وصيتها على أيدينا».
هذه حكاية من مئات الحكايات التي تحدث في ظل الحرب المستعرة. وكما تسهّل حكومة العدالة والتنمية عمليات قتل السوريين وإغراقهم وتستثمر أرواحهم مادياً وإعلامياً، هي تستثمر أيضاً دفنهم عبر بيعهم القبور.
يروي فاضل الرقاوي، وهو لاجئ سوري في إسطنبول: «بإمكان اللاجئ في تركيا دفن ميته بعد الحصول على موافقة دفن من مديرية المدافن، بشرط أن يقدم تقارير طبية تبيّن طبيعة الوفاة وسببها، وأخذ تصريح من بلدية المنطقة التي يعيش فيها، ثم دفع مبلغ مالي وقدره ٢٠٠٠ ليرة تركية ثمناً للقبر (حوالى ٧٠٠ دولار أميركي)، إضافة إلى تكاليف الدفن والعزاء التي تتجاوز ١٠٠٠ دولار».
أما من أراد دفن ميته في سوريا، فما عليه سوى تقديم طلب إلى السلطات التركية التي تسهّل عملية عبوره إلى سوريا عن طريق الكتائب المسلحة التي تسيطر على المعابر الحدودية، إلا أن معظم اللاجئين يرفضون ذلك لأنه يأخذ وقتاً طويلاً وليس فيه مراعاة لحرمة الميت.
كذلك خصّص الأتراك مقبرة في مدينة إزمير لدفن ضحايا اتّجارهم بالبشر، عبر تسهيل عمليات تهريبهم عن طريق المافيا إلى أوروبا، وترفض السلطات الإفصاح عن العدد الحقيقي للضحايا الذين تم دفنهم في مقبرة أزمير، بعد أن ألقى بحر إيجه بجثثهم على الشواطئ التركية.

«إكرام الميت... حرقه»

لا تختلف معاناة اللاجئين السوريين في لبنان كثيراً عن تركيا، إلا أنّ الأسعار في لبنان هي الأعلى بالنسبة إلى السوريين، الأحياء منهم والأموات، حيث تزيد تكاليف القبر والدفن في حدّها الأدنى على ثلاثة آلاف دولار. وهذا مبلغ كبير جداً بالنسبة إلى أوضاع اللاجئين المتردية، ولا سبيل لتأمينه إلا بالاستدانة وجمع المبلغ من الأقارب والأصدقاء و«أهل الخير».
قضى علاء الدين إثر سقوطه من الطابق الرابع بينما كان يبني واجهة حجر لإحدى العمارات في بيروت. لم يتمكن أقاربه من نقله إلى قريته في ريف حلب، فبدأوا رحلة البحث عن قبر.
يروي صديقه المقرّب أحمد أنّه «قضينا يوماً كاملاً في البحث عن مكان ندفن فيه علاء، وعندما وجدنا قبراً كان علينا دفع ٢٨٠٠ دولار أميركي كتكاليف القبر وإجراءات الدفن. جمعنا المبلغ المطلوب من بعض الأقارب والأصدقاء وأهل الخير ودفنّاه، صار فينا نبكيه الآن، فقد أصبح تحت التراب وارتاحت روحه في السماء». يتلقى بعض أقاربه العزاء في غرفتهم المتواضعة في مخيم شاتيلا، ولم يكن بوسع أطفال علاء وزوجته أن يلقوا عليه نظرة الوداع الأخيرة، ولن يكون له قبر في القرية يزورونه. رحل الرجل وبقيت صوره وذكراه فقط.
يقول اللاجئ عيسى: «ليست المرة الأولى التي يموت فيها سوريون في لبنان أو غيره. كانت جثة الميت تأتي من أي دولة يكون فيها المتوفى. بعد بدء الحرب السورية أصبح إيصال جثث الموتى إلى المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة شبه مستحيل. حتى بيوت العزاء ألغيت تجنّباً للتجمعات وخوفاً من القذائف العمياء، والمشكلة لا مكان في لبنان. ماذا نفعل، هل نحرق الجثث؟».
معظم السوريين الأحياء في لبنان لا يجدون لهم مكاناً يعيشون وينامون فيه، لذا يفترشون الأرصفة حول المدينة الرياضية في بيروت وتحت جسر الكولا، ويموتون على أبواب المشافي، حالهم كحال أغلب اللبنانيين، ولا يجدون قبراً يؤوي جثثهم إلى أن تتفسخ وتأكلها الأرض.

«القبور مقامات»

تأخذ المشكلة السورية أبعاداً مختلفة في الأردن، إذ يرفض أغلب الأردنيين أن يشاركوا السوريين في القبور. وفي ظل هذه الضائقة، قد تبقى جثة الميت لأيام في براد المشفى ريثما يقوم الأهل بتأمين قبر، لذا تبرّع بعض أبناء العشائر بمساحة صغيرة من أراض يملكونها لدفن موتى اللاجئين، إلا أنها سرعان ما امتلأت.
يقول أبو أحمد، مواطن سوري يعيش في الأردن: «لا يحب السوريون دفن موتاهم هنا. يعلمون أنهم سيرجعون يوماً، وهذا يضيف إلى مشكلة الدفن المادية مشكلة أخرى معنوية أشد إيلاماً، وهي العودة وترك الموتى، لكن لا خيار أمامهم سوى القبول بالأمر الواقع».
وجد الأردن في اللجوء السوري فرصة جيدة لزيادة حجم سلة المعونات السنوية التي يحصل عليها عالمياً، وأجادت حكومته استثمار ما يزيد على نصف مليون لاجئ سوري إقليمياً ودولياً. تداوي المملكة جرحى «جبهة النصرة» في مشافيها مجاناً وتؤمن الدعم اللوجستي لهم، بينما ضاقت مقابرها بموتى اللاجئين المدنيين.
يقول عبد الرزاق، وهو سوري هارب من هول الحرب: «علقنا قرب الحدود الأردنية في المنطقة الغربية، وتعب أبي كثيراً بسبب رحلة التهريب، وفارق الحياة ونحن محتجزون، ويرفض حرس الحدود الأردني السماح لنا بالدخول. أخبرناهم أن معنا جثمان ميت يجب أن يتم دفنه، إلا أن ذلك لم يغيّر شيئاً. بعد يوم ونصف جهّزنا له قبراً ودفنّاه في الصحراء».
دعت منظمة «هيومن رايتس ووتش» الدول المجاورة لسوريا، ومنها الأردن، إلى تحمّل مسؤولياتها والسماح بدخول السوريين المعرضين للخطر، وعدم احتجازهم في المخيمات الصحراوية التي لا تتمتع بأبسط مقومات الحياة، إلا أن هذه الدعوات لم تلقَ استجابة. وتختلف تكلفة القبر ودفن الميت في الأردن من مكان إلى آخر؛ فالقبور مقامات، وتتراوح في المقابر التي تسمح بدفن الموتى السوريين بين ٣٠٠ و٥٠٠ دينار أردني (700 دولار أميركي)، ويلعب المتبرعون السوريون دوراً كبيراً في تأمين هذا المبلغ كنوع من العزاء لأهل الميت.

الدفن أوروبياً

يزداد عدد اللاجئين السوريين في الدول الأوروبية. ورغم أن أولى المشكلات التي يفكر فيها اللاجئ هي الحصول على الإقامة والسكن وإيجاد عمل مناسب، إلا أنه ما إن يستقر حتى يبدأ بالتفكير في شؤون أخرى تخصّ المسلمين جميعاً لا السوريين فحسب، كيف وأين يدفن الموتى المسلمون في أوروبا؟
لا تسمح أغلب الدول الأوربية بدفن الموتى على الطريقة الإسلامية؛ ففي ألمانيا التي تعتبر الوجهة الأولى للاجئين، ترى جمعيات بيئية مناهضة للدفن بالكفن أن التابوت ضرورة ملحة، إلا أن بعض الولايات في ألمانيا سنّت قوانين تسمح للمسلمين بالدفن حسب الشريعة الإسلامية.
وهذا يجعل اللاجئين في تلك الولايات يشعرون بالطمأنينة. وبينما كان العرب ينقلون جثامين موتاهم إلى بلدانهم الأصلية، أصبح بإمكانهم اليوم أن يدفنوهم هنا بطمأنينة، حيث تستأجر جمعيات إسلامية مقابر لمدة عشرين سنة قابلة للتجديد.
يروي مهند، اللاجئ مع أفراد عائلته إلى ألمانيا: «تكاليف الدفن مرتفعة هنا، من ٢٠٠٠ يورو وما فوق. طول عمرنا ندفن موتانا بالرقة ببلاش، الأمور مختلفة هنا، القبر وحده ١٠٠٠ يورو، ومستعمل، إضافة إلى المصاريف الثانية وتكاليف الدفن».
ويضيف مهند: «بدل أن يهبّ أولاد العم والإخوة والجيران لحفر القبر، وغسل الميت وإعداد مراسم الدفن، وتكون مدفوناً بين الأهل والأصحاب، تحضّر شركات للموت كل شيء، وتدفنك بعد أن تقبض المصاري. وفي النهاية تعيش غريباً، وتموت غريباً، وتدفن غريباً».
أما في فرنسا، فالمشكلة كبيرة. لا تتجاوز المقابر المخصصة للمسلمين عدد أصابع اليد، وتكاليف الدفن عالية جداً، ويتم وفق نظام إيجار القبور من ١٥ إلى ٣٠ عاماً، وبعد انقضاء المدة المحددة يحق لـ«شركات الموتى» إخلاء القبر وإحراق ما بقي من الجثة، وهذا مخالف للشريعة الإسلامية.
هاجر السوريون من بلادهم هرباً من الموت، يحلمون بحياة أفضل لهم ولأسرهم، إلا أنه لا مفر من الموت إن حانت لحظة الأجل. وفي ظل هذه الحرب، أصبح السوريون بدواً رُحّلاً يدفنون موتاهم ثم يرتحلون عنهم. يتابعون رحلة تغريبتهم مُجبرين، وهم من كانوا يقدّسون المقابر ويزورونها كلما ضاقت صدورهم، ويزرعون الأشجار عند رؤوس موتاهم.




مقبرة البحر المتوسط

تتربع في محطة مترو العاصمة النمساوية فيينا لوحة مستطيلة تمتدّ لأمتار، مكتوب عليها بلغة عربية «مكسّرة» (يبدو أنها مترجمة عبر محرّك البحث «غوغل»): «لوحت المفقدين»، أي «لوحة المفقودين». عشرات الصور والإعلانات ملصقة على هذه اللوحة، واحدة تشير إلى فقدان طفل عمره ست سنوات سقط في البحر بين تركيا واليونان، وأخرى تشير إلى طفلة فقدها أهلها في الطريق إلى كرواتيا أثناء المسير الليلي في الغابات.
في تلك الأثناء، دفنت السلطات النمساوية نحو ٧٥ جثة، هؤلاء من قضوا خنقاً في سيارة شحن الخضر، حفروا لهم قبوراً إلى جانب الطريق الذي عثروا فيه على جثثهم، وعثرت الشرطة اليونانية على جثتي طفلين، أحدهما رضيع، على شواطئ جزيرة كيوس، ودفنت السلطات الايطالية نحو ٤٠٠ لاجئ قضوا غرقاً دفعة واحدة عام ٢٠١٣، بينما بلغ عدد من قضوا في عام ٢٠١٥ حوالى ٢٦٧٥ لاجئاً قدفتهم الأمواج إلى الشواطئ الإيطالية، ودفنت السلطات الإسبانية نحو ٥٠ لاجئاً.
يقول سايمون، وهو ناشط هولندي في مجال إغاثة اللاجئين: «ارتفع عدد ضحايا اللاجئين هذا العام بشكل ملحوظ، وهو يتناسب طرداً مع عدد المهاجرين الفارين من هول الحرب في بلادهم، حيث بلغ عدد اللاجئين إلى أوروبا عبر البحر خلال صيف ٢٠١٥ نحو ٤٠٠ ألف لاجئ، حسب الإحصائيات الأممية المتضاربة، بينما لم يتجاوز ٢٢٥٠٠ لاجئ في صيف ٢٠١٢».
ورغم أن السوريين ليسوا الأكبر عدداً بين المهاجرين، لكن يبدو كأنهم الأكثر موتاً. قضى في هذا الموسم حوالى ١٧٠ مهاجراً غرقاً في بحر إيجه بين تركيا واليونان، كان أبرزهم الطفل السوري إيلان الذي هزّ موته الرأي العام العالمي، ولكنه لم يردع الأتراك عن تجارتهم بالسوريين عبر إرسالهم بقوارب الموت. أما في البحر المتوسط، فقد وصل عدد من قضوا غرقاً إلى نحو ٢٧٢٥ مهاجراً، قذفتهم الأمواج على السواحل الإيطالية واليونانية والإسبانية، إضافة إلى من اختنقوا في سيارة الشحن في النمسا، وعددهم ٧٥.
كذلك سبق أن أعلن عمدة جزيرة ليسبوس اليونانية، سبيروس غالينوس، امتلاء مقبرة الجزيرة، وانعدام أماكن الدفن فيها بسبب ازدياد عدد ضحايا الغرق من اللاجئين.
وتؤكد مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن مسؤوليتها تقتصر على الأحياء فقط، أما الميت فلا شأن لهم به، وتقع المسؤولية على كاهل الأهل الذين تنجدهم مساعدات أهل الخير أحياناً.