الموت والضرائب، مصيران لا يُمكن التهرّب منهما. هكذا عبّر العالم الغربي بأصوات مختلفة عن حتمية تكليف المواطن والمؤسسات بوصف إنتاجهم وعاء لا يُمكن تجنب الغرف منه. حتّى أنّ الأميركي الأول، بنجامين فرانكلين، غَمز من هذه الحتمية في معرض حديثه عن دستور بلاده: "انتهينا من وضع دستورنا الجديد، ويبدو أنه يَعِد بالديمومة؛ ولكن في هذا العالم لا شيء أكيداً سوى الموت والضرائب".
بمساعدة الحظ والطب الحديث يُمكن غشّ الموت وتأخير وقوعه، وبالأساليب المحاسبية المتذاكية يُمكن أيضاً الالتفاف على الضرائب وتجنّب وقوعها من أساسه. غير أنّ أحداً لا يُمكنه أن يكون نشطاً اقتصادياً في الوحدة الاجتماعية التي ينتمي إليها من دون أن يدفع ضرائبه، أكانت تلك الخاصة بالدخل أو بالاستهلاك.
هذه الحتمية ودورها في النشاط الاقتصادي العام تُشكّل العصب الذي يربط المواطن بدولته وبالحكومة التي تسيّر شؤونه. قد يختلف مستوى الضرائب بين بلد وآخر، بل حتّى بين ثقافة وأخرى، غير أنها موجودة في كلّ المجتمعات وتتحقّق بمعدّلات مختلفة من الصعوبة.

تفاوت البلدان

تُقدّم دراسة "دفع الضرائب 2015" التي نشرتها أخيراً شركة الأبحاث والاستشارات المالية، Price Waterhouse Cooper (PWC) بالتعاون مع مجموعة البنك الدولي، فكرة واضحة عن التفاوت بين البلدان لناحية سهولة تسديد الضرائب.
اليوم يتمتّع 43% من اقتصادات العالم بأنظمة إلكترونية مؤتمتة تستخدمها معظم الشركات للتصريح عن مداخيلها وتسديد ضرائبها. ويُمكن بسهولة ملاحظة الفروقات بين منطقة وأخرى.
صحيح أن منطقة آسيا الوسطى وشرق أوروبا تُسجّل أسرع معدلات الإصلاح في هذا المجال وتركّز على الأنظمة الإدارية لتحسين وضعيتها، إلا أنّ منطقة الشرق الأوسط تبقى "أسهل منطقة في العالم لدفع الضرائب"، تجزم الدراسة. هنا "النظام الضريبي (عموماً) هو الأقلّ تطلّباً، فيما معدل الضرائب والوقت اللازم لتسديدها هما الأدنى في العالم".
في المقابل تئنّ أميركا اللاتينية من ضعف مزمن على هذا الصعيد. "هي المنطقة الوحيدة التي تسجّل زيادة كبيرة في معدّل الضريبة، وتستمر بتسجيل أطول الفترات لدفع الضرائب".
يستند التصنيف إلى ثلاثة مؤشرات رئيسية لتحديد مستوى سهولة تسديد الضرائب. اولاً، معدّل الضريبة المفروضة، ويتضمن ضريبة الدخل وضريبة الأرباح. ثانياً، الوقت (بالساعات) الذي تتطلبه عملية تسديد الضرائب. ثالثاً، عدد الخطوات المطلوبة لإتمام هذه العملية.

لبنان في المرتبة الـ40

اعتماداً على هذه المعايير تحلّ قطر والإمارات العربية المتحدة في المرتبة الأولى عالمياً، ووراءهما مباشرة تبرز السعودية. أما لبنان فمرتبته هي 40 بين 189 بلداً يدرسها البحث.
غير أنّ هذه المعايير وتقدّم أي بلد فيها لا تعكس بالضرورة صوابية نظامه الضريبي وفوائده الاجتماعية. مثلاً، هذا الموقع المتقدم نسبياً الذي يسجّله لبنان، يُخفي مسائل كثيرة على رأسها أن معدّل الضريبة الإجمالي على الشركات البالغ 29.9% مشكّل من ضريبة دخل بالغة 23.8% - وهي الثانية الأعلى في المنطقة بعد إيران – ومن ضريبة أرباح بالغة 6.1% وهي الأدنى في المنطقة باستثناء البلدان الخليجية التي تُعد الأكثر صداقة للشركات. أيضاً، فإنّ تصنيف بلد ما صديقاً للشركات والمستثمرين لا يعني بالضرورة معدلات ضريبة أدنى، بل إن الضرائب الموزونة تؤدي، في حالات الإدارة الحسنة للموارد، إلى مقوّمات مثالية لعمل الشركات وإطلاق الاستثمارات، مثل البنى التحتية وسهولة أداء الأعمال إجمالاً عبر ترشيق الإدارة.

رائدة الرأسمالية
البيروقراطية الضريبية قد
تؤمّن زخماً للازدهار أو قد تؤذي كثيراً روح المبادرة

وحتّى الولايات المتّحدة التي تُعدّ رائدة عالم المبادرة الرأسمالية في عصر ما بعد الحداثة، تفرض معايير صارمة في ما يتعلّق بفرض الضرائب. أخيراً بدأت بفرض التكليف على أبنائها الذين يحققون دخلاً خارج الأراضي الأميركية عبر مشروع "فاتكا" المثير للجدل، كذلك فإنّ نظامها الضريبي الخاص بالشركات يدفع الأخيرة – بحسب زعمها – إلى تجنّب البيروقراطية والمعدلات الظالمة وإيداع الأموال في الجنات الضريبية أو الأنظمة الضريبية المتساهلة مثل إيرلندا. على رأس تلك الشركات "آبل" التي تُعدّ حالياً الشركة الأكبر تاريخياً لناحية القيمة السوقية (بالقيم السوقية الجارية وليس المطلقة) والتي تحمل سيولة تتخطى 150 مليار دولار خارج الأراضي الأميركية لا تسدد ضرائب مستحقة عليها.
على أي حال، فلنعد إلى السهولة الضريبية. مهما تكن الثقافة الاقتصادية للبلد المعني وفلسفته الضريبية لا بدّ أن يسعى دوماً إلى تحسين الإجراءات البيروقراطية لتحقيق التكليف وتغذية الخزينة العامة بالموارد الضرورية لعمل المجتمع؛ فخفض الإجراءات والتعقيدات يعني وفراً في الوقت، وبالتالي زيادة في الإنتاجية.
في لبنان تقيس دراسة PWC أن الوقت الإجمالي اللازم لتنفيذ الالتزام الضريبي والامتثال للأخ الأكبر يبلغ 183 ساعة، وهو مجموعة 40 ساعة لإتمام ضريبة الشركات، 100 ساعة للانتهاء من ضريبة الدخل، و43 ساعة لازمة لترتيب الضريبة الخاصة بالاستهلاك، أي الضريبة على القيمة المضافة. ويُمكن القول إنّ هذا المعدل اللبناني قريب من الأرقام المسجّلة في بلدان من العالم الأول.
من جهة أخرى، يتطلب إتمام الضرائب في لبنان 19 معاملة/ دفعة، بينها معاملة واحدة خاصة بضريبة الأرباح، 12 معاملة خاصّة بضريبة الدخل وست معاملات خاصة بأنواع أخرى من الضرائب.
إذاً، قد لا يكون مؤشر سهولة تسديد الضرائب دالاً على سلوك البلد الاجتماعي ووجهته، غير أنه من دون شكّ يُعطي فكرة عن بيروقراطيته؛ بيروقراطية قد تؤمّن زخماً للازدهار أو قد تؤذي كثيراً روح المبادرة.