5 ملايين ليرة، عقد سنوي مع محامٍ، أوراق ثبوتية وتسجيل في المؤسسات المختصة هو كل ما تحتاجه لتأسيس شركة محدودة المسؤولية (SARL) في لبنان. بالاعتماد على المعارف في الدوائر المعنية – من وزارة التجارة وصولاً إلى مصلحة الضريبة على القيمة المضافة - وعلى العلاقات العامّة، والخاصة، في القطاع المصرفي وربما الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، يُمكن الانتهاء من العملية خلال أقل من عشرة أيام؛ نعم، بهذه السهولة يُمكن أن تُصبح رجل أعمال إذا تأمنت الشروط المذكورة.ولكن «العلاقات»، أكانت موروثة أم مُطوّرة عبر نظام الإدارة الطائفية، ليست نعمة على الجميع. وفي الواقع، عوضاً عن إتمام بعض العمليات خلال يوم واحد، قد يصل بك الأمر إلى شهر كامل.
فلنأخذ مثال التسجيل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

هذه العملية التي تتضمن «التسجيل» و»تأكيد» التسجيل – أي إصدار الوثيقة على الورقة الرسمية الخاصة - يُفترض أن تتطلب يوماً واحداً فقط من دون أي كلفة على رب العمل أو الموظف. بإتمامها يُصبح عمل الشركة قانونياً (في المبدأ) ويُصبح العمال محميين. ولكن...
«نظراً لعدم وجود معدات الطباعة الكافية لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، تُطبع الوثائق المطلوبة بعد تجميع كميات معينة منها كلّ بضعة أيام، ولذا قد يتطلب الأمر ما يصل إلى ثلاثين يوماً (عوضاً عن يوم واحد!) لإصدار ورقة التثبيت وتسليمها للموظف».
بهذه الدقة توصف هذه العملية لدى استعراض حالة لبنان في تقرير «سهولة أداء الأعمال 2015» الذي نشرته مجموعة البنك الدولي أخيراً.
دراما حجرية
لن نكون دراميين في التوصيف. صحيح أن تأخر ورقة تثبيت التسجيل ليست نهاية العالم، غير أن العملية الحجرية التي تتم لإصدارها تختصر حكاية الإطار المؤسساتي العام الذي يحكم أداء الأعمال – وصون حقوق العمال والموظفين في آن واحد – في لبنان.
من بين 10 مؤشرات أساسية يقوم عليها مؤشر سهولة أداء الأعمال الذي يُعدّه البنك الدولي، يتمنى المرء وجود واحد فقط يُحقّق عبره لبنان تقدماً على مستوى مرتبته العالمية. في المجمل يتراجع لبنان درجتين إلى المرتبة 104 عالمياً بين 189 بلداً يدرسها التقرير.
أبرز تلك المؤشرات، هو تأسيس الشركات (Starting a Business). وفقاً لمعطيات التقرير، فإنّ تأسيس شركة في لبنان يتطلب تسعة أيام، وهي ليست فترة قاتلة ومتماهية مع المعدل السائد في المنطقة، وإن كانت تستغرق نصف يوم فقط في نيوزيلندا!
كذلك فإنّ كلفة التأسيس تعادل 73% من حصة الفرد من الناتج وهي تقريباً 20 ضعفاً الكلفة المسجلة في السعودية؛ وللإشارة فإنّ الكلفة بحسب هذا المؤشر تساوي صفراً في سلوفينيا.
هكذا يهوي لبنان 7 درجات مقارنة بالعام الماضي ليحل في المرتبة 119 عالمياً، متأخراً بأشواط وراء مصر، تركيا والإمارات.
«التعاطي مع رخص البناء» هو المعطى الثاني الذي يدرسه مؤشر البنك الدولي. هنا يسقط لبنان إلى المرتبة 164 عالمياً، مقارنة بالمرتبة الرابعة التي تقنصها الإمارات العربية المتحدة. بمجرّد معرفة أن معالجة رخصة البناء تتطلب 244 يوماً في لبنان مقارنة بـ63 يوم في الأردن وبـ44 يوم في الإمارات، لا يعود التدهور اللبناني مستغرباً.
وللمفارقة يحقق لبنان أفضل نتائجه في مجالي «دفع الضرائب» و»الحصول على اشتراك في خدمة الكهرباء» – العامة طبعاً وليس عبر المولدات الخاصة. في الاول يحل في المرتبة 40 عالمياً، متراجعاً أيضاً من المرتبة 35، أما في الثاني فمرتبته هذا العام هي 57 أي بتراجع أربع مراتب.
المؤشرات الثانوية الأخرى التي تشكل عصب المؤشر الإجمالي هي تسجيل الملكية العقارية، الحصول على القروض المصرفية، التبادل التجاري عبر الحدود، احترام العقود القانونية وشفافية تطبيق بنودها إضافة إلى معالجة حالات الإفلاس أو عدم القدرة على السداد.
في جميع هذه المجالات يسجّل لبنان تراجعاً في ترتيبه العالمي، وفي بعد الأحيان يبدو وضعه كارثياً على المستوى الإقليمي (أنظر الكادر المرفق).
صحيح أن ملاحظات كثيرة يُمكن إيراداها في سياق استعراض نتائج مؤشر البنك الدولي الخاص بالعوامل التي تحكم بيئة البزنس في البلدان التي يدرسها، غير أنّ المؤشر عموماً يعطي فكرة عن حركة اقتصاد ما باتجاه إزالة العوائق أو تعزيزها أمام رأس المال (طبعاً في بعض الأحيان العوائق قد تكون مطلوبة لكبح نشاط استثماري معين يؤذي الصالح العام).
في المبدأ، ليس غريباً أن تكون بيئة الأعمال – إن كان هناك من بيئة شفافة خارج إطار النظام السياسي الطائفي – قد تهشّمت بفعل الاضطرابات السياسية والأمنية خلال السنوات الأربع الماضية. ولكن فشل لبنان يأخذ أبعاداً أخرى، أكثر خطورةً.
يظهر هذا الأمر تحديداً لدى استعراض مؤشر حماية المستثمرين الصغار (أو المستثمرين الذين يشكلون أقلية في هيكلية أعمال معينة) على وجه الخصوص مع بلد تنهشه الحرب مثل سوريا، والذي، للغرابة، لا يزال صامداً في التقويم.
وفقاً لهذا المؤشر يحلّ لبنان في المرتبة 106 عالمياً متراجعاً أربع مراتب مقارنة بعام 2014. إذ في المجالات الثلاثة التي تشكّل هذا المؤشر – مستوى حماية المستثمرين الصغار، مستوى الحوكمة في تسيير شؤون المستثمرين وقوانين حماية المصالح في حالات النزاعات – يسجّل لبنان أداء دون المعدّل.
هذا التدهور يجعله وراء سوريا التي تحلّ في المرتبة 78 عالمياً! لعل هذا المؤشر، معطوفاً على البيروقراطية القاتلة في المؤسسات العامّة يختصران قصة المبادرة لتأسيس الأعمال في لبنان.

مؤشر سهولة أداء الأعمال (البنك الدولي)