هل هي فلسفة الحذر أم أنه الخمول بأوضح صوره؟ قد تختلف طريقة توصيف الأعمال التي تنفذها المصارف اللبنانية، بيد أنّ المضمون واحد: إنه نموذج يولّد الأرباح، معتمداً بالدرجة الأولى على آليات الدولة واحتياجاتها التمويلية. يُختصر هذا الوضع بالمعطى الآتي: قرابة نصف الدين العام بالليرة تحمله المصارف التجارية، فيما معظم الدين بالعملات الأجنبية في جعبتها أيضاً، بطريقة أو بأخرى.

ولكن إلى هذه المؤشرات، هناك حسابات دقيقة تُظهر مدى الارتباط بين أرباح المصارف اللبنانية، وتلك الموجودة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عموماً، وضعف الدول التي تعمل في كنفها.
في المبدأ، كلما اعتمدت الحكومات على التمويل من الجهاز المصرفي المحلي، ازدهرت المصارف التجارية وحققت الأرباح السهلة والمضمونة من دون أية أعباء. فلنأخذ مثالاًً المصارف اللبنانية الكبرى أو المسماة «ألفا»، التي تفوق قيمة ودائع كل منها ملياري دولار.
خلال عام 2013، ورغم تكبّدها الخسائر في الأسواق الإقليمية – التي للمفارقة اعتمدت عليها خلال العقد الماضي لتوسيع الإيرادات – حافظت تلك المصارف على مستوى أرباحها الذي فاق 1.7 مليار دولار.
ترفض المصارف اللبنانية ربط أدائها بالخمول. برأي القيمين عليها، أنّ إدارتها لقاعدة ودائع تقارب 140 مليار دولار تفرض مسؤولية هائلة وحذراً عظيماً؛ يؤكّد هؤلاء دوماً أنه حتّى التوسع في الخارج كان مدروساً بدقة، رغم تعطش الأسواق الجديدة لخدمات الصيرفة وذلك بدليل أنّ التأزم في مصر وسوريا وباقي البلدان منذ عام 2011، تم احتواؤه بنجاح.
ولكن المصارف ليست اللاعب الأهمّ في هذه العملية، فمن يدير الشؤون فعلياً هو المصرف المركزي. هذا ما تُظهره دراسة بعنوان «هل المصارف خمولة فعلاًً؟» نشرها صندوق النقد الدولي أخيراً، تتطرق إلى تلك العلاقات المثيرة للكثير من التساؤل في اقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث حجم المصارف المركزية قياساً بالاقتصادات كبير على نحو ملحوظ.
تمثل الودائع 210% من الناتج، ولكن معدل القروض إلى الودائع هو 39% فقط أي أقل من نصف المعدل الإقليمي


تخلص الدراسة التي أعدّها كل من: سايمون غراي، فيليب كرم وريما الترك، إلى وجود ارتباط وثيق بين وضعية ميزانية المصارف المركزية وبين الحركة التي تشهدها ميزانيات المصارف التجارية. وهي تفيد بأنّ القرارات التي يتخذها المصرف المركزي تساهم في زيادة الاحتياطات التي تحفظها المصارف لديه – أكانت احتياطات إلزامية أم ودائع تُستخدم لإقراض الدولة على نحو غير مباشر – «هذا ما يؤدي إلى تراجع معدل القروض إلى الودائع».
في المبدأ، يتم الركون إلى هذا المعدّل لتحديد مستوى نشاط المصارف في المجالين الاستهلاكي والاستثماري: كلما ارتفع المعدل يعني أن البنوك تستغلّ الأموال المودعة لديها في السوق، وكلما تراجع - وفي الوقت نفسه حافظت المصارف على ربحيتها وعلى أدائها المالي عموماً - فهذا يعني أنّها تُحقق نتائج طيبة معتمدة على المصرف المركزي وعلى الحكومة؛ أي بكلام آخر، المصارف خمولة أكان هذا الخمول نتيجة فعلها المباشر أم ردة فعل مطلوبة على الإجراءات الرسمية.
«تفترض النتائج أن إجراءات الحكومة والبنك المركزي معاً قد تُفسّر المستوى المنخفض لمعدلات الودائع إلى القروض عبر المنطقة» تقول الدراسة.
إنّ الاعتماد المتبادل بين الحكومة، والمصرف المركزي والمصارف التجارية هو بحد ذاته حلقة الخمول التي تتسم بها المصارف اللبنانية والبنوك الإقليمية عموماً. غير أنّ دراسة صندوق النقد تبقى حذرة في هذا المجال، ربما خشية توجيه اتهام مباشر للمصارف بأنها كسولة، أو اتهام مديري النظامين المالي والنقدي بأنهم ينافسون القطاع الخاص.
تقول الدراسة: «لقد تبيّن أنّ إجراءات الحكومة أو المصرف المركزي أثرت على نحو واضح إحصائياً على معدلات القروض إلى الودائع وذلك لأسباب لا علاقة لها بآليات العرض والطلب على الأموال من قبل المستهلكين والمصارف الأخرى على حد سواء».
إزاء هذا الوضع «يجب أن تركز السياسات العامّة على كيفية معالجة المخاطر التي تحيق بتمويل القطاع الخاص من جراء طلب الحكومة للأموال» تقول الدراسة.
بكلام آخر، الحكومة تُعزّز من خمول المصارف التجارية، وهذا يشكل مخاطر على تمويل احتياجات المجتمع برمته.




لبنان... الأعلى

في لبنان، حيث تمثّل الودائع 210% من الناتج المحلي الإجمالي - وهو المستوى الأعلى على الإطلاق بين البلدان المدروسة - يهوي معدل القروض إلى تلك الودائع إلى 39% فقط، أي أقل من نصف المعدل السائد في المنطقة.
هذا الوضع ليس مستغرباً، إذ إن قروض المصارف التجارية إلى الحكومة تعادل قرابة 70% من الناتج، وهو المعدل الأعلى في المنطقة، ويساوي ضعف ما تسجله مصر مثلاًً التي تحل ثانية.
كذلك، فإنّ ودائع المصارف التجارية لدى مصرف لبنان تمثل 79% من ميزانيته الإجمالية، بنهاية 2012، وهو أعلى بواقع 13 نقطة مئوية مقارنة بعام 2007، وهو أيضاً الأعلى بين البلدان المدروسة.