ميزة سوق «مار الياس»، كغيره من الأسواق التي تشبهه، أنه فضاء للاختلاط الاجتماعي، حيث تنمو علاقات وطيدة في أغلب الأحيان بين الزبائن والتجار، على خلاف الطابع التجاري البحت في «المولات» مثلاً، حيث تنحصر العلاقة بالبيع والشراء. فرغم الضائقة المادية، يبدو لافتاً اشتياق أصحاب المحال لزبائنهم المعتادين، ولو لم يكونوا راغبين في الشراء. وكأن الزيارة بحدّ ذاتها باتت هدفاً ومتنفساً قد يعيد إليهم بعضاً من الحياة.
«كلنا رايحين»
«ميتة»، هكذا تصف الوضع صاحبة متجر متخصص في بيع الملابس النسائية عند تقاطع شارعي الملا ومار الياس. افتتحت متجرها منذ عامين، وكانت الأجواء في حينها مبشّرة والمبيعات ممتازة. لكن بعد انقضاء عام، تحديداً منذ بداية العام الجاري، تدهورت المبيعات دراماتيكياً، «وبات من البديهي أن تبيع قطعة واحدة لا يتجاوز سعرها 50 دولاراً طوال أسبوعين»! 100 دولار مبيعات شهرياً أو أكثر بقليل هو نتاج 8 ساعات عمل يومياً على مدار 6 أيام في الأسبوع تقضيها هذه السيدة لتحصّل في النهاية مبلغاً قد لا يكفي لسداد ثمن فاتورة الكهرباء. لا حاجة لسؤالها عن كيفية تدبيرها لباقي المصاريف، رغم محاولتها العفوية للمزاح بالقول ساخرةً: «إذا المرأة اللبنانية بطلت عم تشتري ملابس نسائية يعني خلصت الدني».
«بات من البديهي أن نبيع قطعة واحدة لا يتجاوز سعرها 50 دولاراً طوال أسبوعين»


ينعى خضر علامة، صاحب متجر «أصواف الطيارة» الشهير (منذ عام 1961)، السوق التي «أصبحت عبارة عن أرضٍ محروقة، لا أمل فيها»، مستشرفاً المستقبل القاتم بحسرة: «كلنا رايحين». يدرك علامة أن الحكايات في الشارع ستكون متشابهة، فيحاول ببساطة أن يشعرنا بحجم المأساة وانعكاسها عليه شخصياً من خلال التأكيد أنها «المرة الأولى في حياتي التي أترك فيها ذقني تطول. صار إلي 10 أيام ما حلقتها». في السابق «كنا نتهندم يومياً لاستقبال الزبائن بأفضل حلّة. أما الآن ونحن جلساء أنفسنا طوال النهار لا نجد المحفزات الكافية».
بالنسبة إلى مالك متجر «ديسبيردو»، علي عشي، فإن «السبب الأساسي لتراجع الحركة التجارية في الأسواق المفتوحة عموماً ومار الياس خصوصاً هو الغياب التام للخطط التجارية. تراجعت المبيعات بنسبة 80% العام الماضي، وإذا كان فصل الصيف كسابقه فعلى الدنيا السلام!»
أما «جمعيّة تجار مار الياس» فيبدو أنها، كالزبائن، اختفت تماماً من الشارع. على مدى أكثر من 10 أيام حاولنا التواصل مع الجمعية للاستماع إلى وجهة نظرها، وإن كان لديها خطط أو أفكار للحدّ من الأضرار وإعادة إنعاش السوق، ولكن من دون جدوى.

«المولات» و«الأونلاين»
يصارع أصحاب المتاجر في «سوق مار الياس» على أكثر من جبهة. وكأن الحال الاقتصادية المتردية وهجمة «المولات» التي انتشرت كالفطر مبتلعةً جزءاً من روّادهم التقليديين لا تكفي، حتى أتتهم موضة التجارة الإلكترونية والمبيعات «أونلاين» وخاصة عبر منصة «الفيسبوك».
اللافت بحسب التجار في السوق أن ضرر المجمّعات التجارية الكبرى كان أقلّ مما توقعوا، إذ إن «الركود والتراجع في المبيعات طاول الجميع دون استثناء. وما الزحمة التي تشهدها هذه المجمعات إلا عجقة لا تقدم ولا تؤخر، وبمجملها تقتصر على متفرجين يقضون وقت فراغم بالتجول والتأمل والتحسر». الفرق فقط يكمن في القدرات المادية الأكبر التي تمنح العلامات التجارية والمحال في «المولات» قدرة أكبر وأطول على الاستمرار.
خطر الأونلاين بالنسبة إلى التجار أكبر. فمن جهة تساهم زحمة السير الخانقة على الطرقات وغياب المواقف التي وإن وجدت تكون مكلفة في الحدّ من رغبة الناس على التنقل للتبضع، فتقتصر تنقلاتهم المخصصة للشراء على الأعياد والمناسبات الرسميّة. وهنا قوة التسوّق «أونلاين»، حيث يكون بإمكان المستهلك انتقاء ما يرغبه من منتجات أينما كان، ويكفيه إتمام الطلب عبر الهاتف أو «الواتساب» لتصل البضاعة إليه «ديليفري». أضف إلى ذلك غياب التكاليف التشغيلية للمتاجر الإلكترونية، إذ لا يتكبد أصحابها أي نفقات كالإيجارات أو الكهرباء أو رسوم البلدية ورواتب الموظفين وغيرها، على عكس التجار التقليديين الذين لا يجدون ما يقولونه سوى أن العالم تغيّر... ومعه التجارة والمستهلكون.