تتجه السويد، بسرعة البرق، لتصبح الدولة الأولى في العالم الخالية كلياً من النقد. لا يهمّ مقدار ما تحمله من مال، وحجم ثروتك، ففي حال قيامك بزيارة السويد ولم يكن بحوزتك بطاقة مصرفية، قد تجد نفسك غير قادر على الشراء، ولو فنجان قهوة، خاصة أن القانون السويدي يسمح للمتاجر والمطاعم وأي مؤسسة برفض قبول النقد. وبحسب نائبة رئيس المصرف المركزي السويدي سيسيليا سكينغسلي في مقال لها نُشر على موقع المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن حجم النقد المتداول في سوق التجزئة في السويد هبط حتى بات يمثل نسبة 1% فقط من إجمالي الناتج المحلي. على المقلب الآخر، وتحديداً في الولايات المتحدة الأميركية، صدر قرار عن مجلس بلدية العاصمة واشنطن في شهر تموز المنصرم، يعتبر فيه أنّ من «غير القانوني رفض المطاعم ومتاجر التجزئة النقد من المستهلكين، أو فرض سعر مختلف عليهم استناداً إلى طريقة الدفع التي يستخدمونها». واقعان متناقضان تماماً، لكن يُظهران بوضوح المسار الذي تسلكه المجتمعات، وتحديداً الأكثر تطوراً اقتصادياً في ما يتعلق بمسألة التخلي عن النقد وتغليب طرق الدفع الرقمي، وأبرزها البطاقات. وفي هذا السياق يتصاعد النقاش، حتى في دول كالسويد، حول إمكانية العيش في مجتمع خالٍ كليّاً من النقد، وهل سيناريو كهذا قابل للتحقيق؟
الأعطال التقنية


التكنولوجيا عظيمة، وساهمت في تسهيل حياة البشر في جميع النواحي. لكن مع كثرة تداخلها في أبسط اليوميات والتفاصيل، فإن أي عطل تقني قد يقود إلى حالة شلل كاملة. في شهر حزيران المنصرم وجد الملايين من العملاء في أوروبا أنفسهم في وضع حرج مع عدم قدرتهم على سداد ثمن مشترياتهم في المتاجر أو على سحب الأموال من الصرافات الآلية جراء مشكلة فنية أصابت شركة Visa العالميّة المتخصصة في مجال الدفع الرقمي. 10 ساعات فقط كانت كفيلة بإفشال أكثر من 5.2 ملايين عملية دفع وسحب في أرجاء أوروبا، ووضع قارة بأكملها مع كل ما تختزنه من اقتصاديات ضخمة في حالة جمود. الفوضى بحسب التقارير سادت في المتاجر، واضطرار المستهلكين ممن كانوا يحملون فقط بطاقات مصرفية إلى ترك البضائع التي كانوا ينوون شراءها في الأكياس والرحيل خالي الوفاض.
هذه عيّنة بسيطة مما قد تؤول إليه الأوضاع في مجتمعات تعتمد إلى حد كبير على طرق الدفع الرقمي عوضاً عن النقد. وعلى الرغم من أن الأمر ليس بالدراماتيكي، وهو قابل للحصول في أي وقت مهما تطورت التقنيات، فهو يبسط أمامنا صورة لواقع الحال إذا أصاب أي خلل التكنولوجيا. حتى في السويد بدأت تتعالى الأصوات، من أعلى المراجع المالية والسياسية في البلاد، لضرورة ضبط الأمور والحفاظ على خطة بديلة، نظراً لخطورة أن يتحول البلد إلى مجتمع لا يتعامل بالنقد نهائياً.

الصراع الخفي


حتى «البنتاغون»، مركز أعظم قوة عسكرية اليوم، الذي يتمتع بأقصى التقنيات الأمنية، تعرض للاختراق من قبل مقرصنين مراراً، فإليكم بتخيل مدى قدرة مصرف أو مؤسسة مالية مهما بلغ شأنه في أن يتحصن كلياً ضد أي محاولة خرق إلكترونية لمنظومته.
في شهر آذار الماضي تحدثت وسائل الإعلام عن إلقاء السلطات الإسبانية القبض على الرأس المدبر لعصابة المقرصنين Carbanak. حدث قد يبدو عادياً لو أن Carbanak كانت كمثيلاتها من مجموعات المقرصنين. في الواقع، إن العصابة المذكورة كانت قد نجحت على مدى 5 أعوام في سرقة نحو 1.24 مليار دولار من مصارف حول العالم باستخدام القرصنة. طبعاً، لا نريد التهويل، فالنظم الأمنية المالية تتطور باستمرار ويصبح من الأصعب خرقها، لكنها غير عصية على الاختراق. إنه الصراع الخفي في العالم الإلكتروني. فما دام هنالك عقل اخترع منظومة الحماية، فلا بد أن يكون بمقدور عقل آخر اختراقها. بهذه البساطة.
أمام هذا الواقع، يصبح من الخطر جداً، أمنياً واقتصادياً واجتماعياً، التخلي عن النقد بشكل كامل، لأنه في حالات القرصنة التي قد تطاول حسابات الناس، فإنها قد تحرمهم الدفع والوصول إلى المال، ولو بصيغته الرقمية، وإن مؤقتاً، حتى إن استرجعوا ما سرق منهم من مال لاحقاً كتعويض من المصرف. للقرصنة أيضاً جانب أكثر خطورة من الجانب المالي، وهو ما يتعلق بقرصنة المعلومات الشخصية والبيانات الخاصة للأفراد، ما قد يحرمهم الكثير من الخصوصية التي يتمتعون بها.

الخصوصية


وبالحديث عن الخصوصية، فهي قد لا تكون عرضة للانتهاك فقط في حالات الاحتيال والأعمال غير المشروعة والجرائم الإلكترونية. فمن المعلوم أن نشاطنا على مواقع التواصل الاجتماعي تدرسه وتحلّله الشركات من حول العالم، التي تتابع سلوكيات كل فرد بما يساعدها في عملية التسويق والإعلان لاحقاً. وإذا كان بمستطاع الشخص أن يحدّ من نشاطه على مواقع التواصل الاجتماعي، لا بل أن يلغي حساباته نهائياً وأن يكمل حياته كما ولو أن شيئاً لم يكن، فمن المستحيل أن يعيش من دون مال ومن غير أن ينفق. وبالتالي وفي حالة المجتمع الخالي كلياً من النقد تكون جميع تعاملاته المالية عرضة للكشف في حال قرصنتها أو في حالة الاستخدام غير المشروع من قبل المؤسسة المصرفية أو المالية التي يودعها فيها أمواله والتي يفترض بها أن تكون مؤتمنة على سرية معاملاته، سواء لاستخدامها الشخصي أو لنقلها إلى طرف ثالث.

زيادة في الإنفاق


معضلة أخرى تبرز في حال تحول جذري كهذا تكمن في الزيادة في الإنفاق التي ترافق التعامل بالبطاقات المصرفية. فمن المعلوم أن حمل البطاقة عوض عن النقد يقود إلى نمو في المدفوعات بحكم أن حجم النقد المتوافر بين يدي المستهلك يكون محدوداً، فيما أن البطاقة تؤمن الوصول إلى مبالغ مالية أكبر.

المهمشون مالياً


أما إحدى أخطر نتائج الانتقال إلى مجتمع خالٍ من النقد كلياً، فهي في الانعكاسات على الفقراء والأشخاص الذين لا يملكون حسابات مصرفية. ووفقاً لتقرير The Global Findex Databse 2017، فإن 1.7 مليار شخص حول العالم لا يملكون حسابات مالية مع أي مصرف أو مؤسسة مالية. ومن حيث الجندرة، إن 56% من هؤلاء الأشخاص غير المشمولين مالياً هم من الإناث، ما قد يؤدي إلى تهميشهن اجتماعياً أكثر. أضف إلى ذلك آثار تحول كهذا في كبار السن والأشخاص الذين لا معرفة كبيرة لهم بالتكنولوجيا والتقنيات الحديثة.

شركات مستفيدة


ناحية مهمة جداً أيضاً في التشجيع على التحول نحو مجتمع خالٍ من النقد تكمن في الأرباح المالية التي ستجنيها المصارف وكبريات المؤسسات المالية العالمية. فبطبيعة الحال، إن التحول الرقمي سيقود إلى إغلاق الفروع المصرفية أو الحد منها كثيراً، وإلى الاستغناء عن عدد كبير من الموظفين، وهو ما سيؤدي إلى انخفاض تكاليف المصارف وارتفاع أرباحها. وفي السياق نفسه، ستضيف كبريات الشركات المالية كـ Visa و Mastercard وغيرها أرباحاً طائلة إلى الأرباح الضخمة التي تجنيها بحكم الرسوم التي تجنيها من كل عملية رقمية.