من منظار اقتصادي لا يوجد قطاع قائم بذاته يُعرف بالعافية، هكذا بالمطلق، يمكن دراسته وتحليله بصورة مجردة. والأدق أن العافية مفهوم بدأ ينتشر في قطاعات مختلفة حيث تختلف شروطه ومتطلباته بين قطاع وآخر، وهكذا بات بالإمكان الحديث عن العافية في السياحة والعقارات وفي مكان العمل وغيرها (Wellness tourism, Wellness real estate, Workplace Wellness)، مع لفت الانتباه إلى غياب ترجمات دقيقة في اللغة العربية للقطاعات المذكورة أعلاه.
أكثر من ترف
يعرّف «معهد العافية العالمي» العافية بأنها «حالة من الرفاهية الجسدية والعقلية والاجتماعية الكاملة، التي تتخطى مجرد التحرر من المرض أو العجز وتشدد على العلاج الوقائي والاستباقي، وتركز على الأنشطة التي تحول دون المرض وتحسن الصحة وتعزز نوعية الحياة». من جهتها تقول غنى الجمّال، منسقة برنامج الصحة والعافية في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت أن «العافية تتضمن عدة أبعاد كالبعد المالي والعقلي والروحي والاجتماعي والجسدي والصحي، إضافة إلى التغذية وهي جميعها تتداخل وتؤخذ في الاعتبار».
والواقع أن الحديث عن العافية لا يعني أبداً، وكما قد يخيّل للبعض، نوعاً من الأنشطة الترفيهية التي قد يلجأ إليها الأشخاص ميسورو الحال من باب الترف كجلسات التدليك وحمامات البخار وغيرها، بل هي وكما ظهر في التعريف أنشطة وبرامج تهدف إلى تحسين صحة الإنسان، وتجنيبه المرض وقائياً. وفي هذا السياق تبيّن الدراسات الحديثة أن صحة الإنسان ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتفاعلات معقدة ما بين العوامل الوراثية وعوامل خارجية عدة اجتماعية واقتصادية. واللافت أن العوامل الوراثية لا تمثل أكثر من 10% إلى 15% من المؤثرات على صحة الإنسان، فيما تلعب المؤثرات الخارجية دوراً أكبر بكثير. أكثر من ذلك أظهرت دراسات حديثة في الولايات المتحدة الأميركية أن المنطقة التي يسكن فيها الإنسان تؤثر على حياته، وعلى عدد السنين التي قد يعيشها وحتى الطريقة التي قد يموت فيها.

اقتصاد مزدهر
على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فإن ثقافة «العافية» تشق طريقها بنجاح وتشهد نمواً على مختلف الأصعدة، حيث تبيّن الأرقام أن هذا المفهوم وعلى اختلاف القطاعات التي ينتشر فيها سيشكل مورداً اقتصادياً مهماً جداً للمنطقة في المستقبل ويساهم في تأمين أعداد كبيرة من فرص العمل. وعلى سبيل المثال قفزت أعداد المنتجعات الصحية spa في المنطقة من 3889 عام 2013 إلى 4465 عام 2015 وصولاً إلى 6057 عام 2017. أما من حيث العائدات المالية لهذه المنتجعات فقد ارتفعت من 1.7 مليار دولار عام 2013، إلى 2.1 مليار دولار عام 2015 حتى بلغت العام الماضي 2.8 مليار دولار، وهي تساهم في 86990 وظيفة، بزيادة تخطت 20 ألف وظيفة عن العام 2015 حين كان يوفر هذا القطاع 63982 وظيفة.

وفي حال المقارنة بمناطق أخرى يتبيّن مدى إمكانية تطور ونمو هذا القطاع مستقبلاً، خاصة أن معدلات الفقر في المنطقة لا تزال تعدّ مرتفعة مقارنة بأميركا الشمالية وأوروبا على سبيل المثال، وبالتالي فإن تحسن الأوضاع الاجتماعية سينعكس حكماً ازدهاراً في هذا المجال. فأميركا الشمالية التي يقل عدد سكانها عن سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يوجد فيها 30394 منتجعاً صحياً، توفر مداخيل بقيمة 29.9 مليار دولار. أما في أوروبا فعدد المنتجعات يبلغ 46282 منتجعاً، وتصل المداخيل التي توفرها إلى 33.3 مليار دولار.
كذلك الأمر في مجال سياحة العافية التي تشهد بدورها نمواً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتي ارتفعت عائداتها من 8.3 مليار دولار عام 2015 إلى 10.7 مليار دولار عام 2017، إضافة إلى ارتفاع عدد السيّاح الذين يقصدون المنطقة للعلاج والذين قفزوا من 9 ملايين عام 2015 إلى 11 مليون عام 2017.
أما في مجال العافية في مكان العمل فقد بلغ عدد الموظفين الذين يستفيدون من الخدمات والبرامج الصحية ما نسبته 7.6% من مجمل عدد الموظفين في المنطقة عام 2017 بعد أن كانت النسبة 7% عام 2015.

لبنان... متأخر
اللافت أن لبنان وعلى عكس ما قد يخيل لنا لم يدخل ضمن قائمة أفضل الدول في المنطقة في مختلف القطاعات التي ينتشر فيها مفهوم العافية بحسب تقرير «معهد العافية العالمي». وإذا أخذنا قطاع المنتجعات الصحية spa والتي نشهد تكاثرها بشكل لافت في مختلف المناطق، فإن لبنان لم يدخل ضمن قائمة أفضل 10 بلدان في هذا المجال والذي تصدرته الإمارات العربية المتحدة، يليها على التوالي كل من السعودية والمغرب و«إسرائيل» والبحرين والكويت وقطر ومصر وعمان وتونس.
في هذا الإطار يقول الدكتور في العلاج الفيزيائي أحمد الكيلاني أنه « لا يوجد في لبنان منتجعات صحية بالمعنى الواسع والشامل للكلمة، لأننا نفتقر إلى الموارد الطبيعية كالمياه الكبريتية ومياه الصوديوم التي تنبع من الأرض، والتي لها منافع كبيرة، إضافة إلى المساحات الخضراء التي يعدّ توافرها ضرورياً للحديث عن منتجع صحي».
إضافة إلى ما سبق يرى الدكتور محمد الصياد، الطبيب الجراح المتخصص في جراحة التنحيف ونحت الجسم أن «الكثير من المنتجعات الصحيّة spa في لبنان تقدم في الأغلب خدمة التدليك فقط، كما وأن الكثير من العاملين في القطاع ليسوا معالجين فيزيائيين متخصصين. وما هو منتشر في لبنان هو ثقافة البلاستيك أكثر من ثقافة الـ Wellness، من حيث تركز النساء على البوتوكس والفيلرز وجراحة التجميل».
يلفت الكيلاني إلى أن «التدليك ليس بالموضوع البسيط والسهل، والتقنيات التي يوفرها ويقدمها المعالج الفيزيائي تختلف جذرياً عما يمكن أن يقدمه شخص عادي في التدليك. والمشكلة أنه ومن حيث المبدأ يجب أن يتولى التدليك معالج فيزيائي متخصص، لكن وزارة السياحة اعتبرت أنه يمكن غض النظر عن الموضوع بشرط ألا يتولى المنتجع تقديم خدمات ذات طابع طبي». لسد هذه الثغرة يكشف الصياد عن نيته إنشاء منتجع صحي «شبيه بقرية طبية على الطراز اللبناني، تتميز بالقرميد وموقعها الطبيعي المحاط بالخضار، يكون الهدف منها تأمين أكبر قدر من الخدمات، يتولاها أطباء وأخصائيون من مختلف المجالات».
تنتشر في لبنان ثقافة البلاستيك أكثر من ثقافة العافية


إحدى المحاولات الرائدة والمهمّة لوضع لبنان على خريطة «اقتصاد العافية» انطلقت من الجامعة الأميركية في بيروت عام 2006 مع برنامج العافية في الجامعة AUB Wellness Program، والذي كان يهدف إلى خلق بيئة صحية أفضل للعمل والدراسة في الجامعة، من خلال مجموعة من النشاطات السنوية التي تتناول قضايا صحية والموجهة لأساتذة وطلاب الجامعة حصراً.
عام 2015 تطور البرنامج وتوسع وأصبح مركز الصحة والعافية في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، والذي يضم خدمات عديدة جداً، من دون إلغاء البرنامج. وتشير غنى الجمّال، منسقة برنامج الصحة والعافية في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت أن المركز يتضمن عيادة لوقف التدخين، وعيادة للوخز بالإبر، وعيادة للتغذية، ويوفر صفوف يوغا وصفوف تأمل meditation وصفوف Tai Chi والعلاج بالتنويم المغناطيسي Hypnotherapy، إضافة إلى التدليك وتقديم خدمات استشارية للمدارس والشركات والمؤسسات حول توفير أفضل ظروف للعمل أكان من حيث طريقة الجلوس ونوعية الكراسي المستخدمة وغيرها.... وتكشف الجمّال أنه ومع تحول البرنامج إلى مركز أصبحت الخدمات التي يوفرها متاحة لجميع الناس ولم تعد محصورة فقط بمجتمع الجامعة فقط.

* [email protected]