يرجع البعض أصل التسمية التاريخية لمضيق باب المندب الى اللغة السبئية الحميرية، بما يعني "العبور والانتقال". وهنالك رأي يقول إنه سمي "باب المندب"، من "ندب الموتى" ويربطه بعبور الأحباش الى اليمن. أو بحسب رواية أخرى لأن العرب قديماً كانوا اذا غزوا الأفارقة وسبوا بناتهم واستعبدوا أولادهم، ينقلونهم الى الجزيرة العربية عبر هذا المضيق، فكانت أمهات السبايا يبكين ويندبن على فقدان أولادهن هناك. كما أن هناك أسطورة أخرى تقول إن سبب التسمية يعود الى الذين غرقوا في البحر بسبب هزة أرضية فصلت بين قارتي آسيا وأفريقيا. أما المضيق، فاسم مكان من ضاق، يعني إضافة الى مجرى ماء ضيق بين قطعتين من الأرض، ما ضاق واشتد من الأمور.
بعيداً عن الشروحات اللغوية وربطاً بالأحداث الدائرة حالياً في تلك المنطقة من العالم، يبدو استناداً الى هذه المعاني أنه كلما "ضاق" الأمر في اليمن كان هناك "عبور وانتقال" الى مرحلة جديدة، وأن الهزة التي فصلت في ما مضى بين أفريقيا وآسيا ما زالت ارتداداتها مستمرة حتى اليوم.

أهمية استراتيجية

تكمن أهمية "مضيق باب المندب" في أنه أحد أهم الممرات المائية في العالم وأكثرها احتضاناً للسفن، وهو يصل البحر الأحمر بخليج عدن، فاصلاً بين جيبوتي في أفريقيا واليمن في آسيا، وتتحكم فيه كل من اليمن وجيبوتي وأريتريا.
ويقدر عدد السفن التي تمر منه كل عام بحوالي 21 ألف سفينة، تمثل حوالي 7% من حجم الملاحة العالمية.
ويرتبط وجود باب المندب ارتباطاً وثيقاً بقناة السويس وبمضيق هرمز. وكانت أهمية باب المندب محدودة حتى افتتاح قناة السويس وربط البحر الأحمر وما يليه بالبحر الأبيض المتوسط وعالمه، فتحول بالتالي الى أحد أهم ممرات النقل البحري بين بلدان أوروبا والبحر المتوسط، ودول المحيط الهندي وشرقي أفريقيا.
ويمثل المضيق نعمةً بالنسبة إلى قناة السويس، وخاصة أن حجم التجارة العالمية المارة بقناة السويس عبر مضيق باب المندب، سواء الآتية من دول الشمال للجنوب أو من دول الجنوب للشمال تمثل تقريباً ما بين 96 الى 98% من حجم التجارة المارة بالقناة، ما يدر على مصر أكثر من 5 مليارات دولار سنوياً.
وبحسب تقديرات إدارة معلومات الطاقة الأميركية في عام 2013، بلغت كمية النفط التي عبرت يومياً مضيق باب المندب قرابة 3.8 ملايين برميل من النفط، ما يساوي 6% من تجارة النفط العالمية. ما جعله يحتل المرتبة الثالثة عالمياً بعد مضيق هرمز ومضيق ملقا، من حيث كمية النفط التي تعبره يومياً. أما الشحنات التجارية التي تمر عبر المضيق، فتعادل عشرة بالمئة من الشحنات التجارية العالمية.
للصورة المكبرة أنقر هنا

ويعدّ المضيق شرياناً حيوياً للتجارة بالنسبة إلى الدول المطلة على البحر الأحمر بدءاً باليمن، وانتهاءً بمصر مروراً بجيبوتي واريتريا والسودان والسعودية والأردن واسرائيل. وبالتالي فإن أي تهديد للملاحة في باب المندب أو قناة السويس ومضيق هرمز كفيل بتحويل السفن الى رأس الرجاء الصالح، في رحلة قد تستغرق أسابيع، وما يستتبع ذلك من ارتفاع كبير في تكاليف والشحن والتأمين وبالتالي على أسعار البضائع.

زحمة بلدان واقتصاد

ونطراً الى الأهمية البالغة لباب المندب فإن تحقيق الاستقرار في المناطق المحيطة به يعد أمراً جوهرياً بالنسبة إلى الدول الواقعة على البحر الأحمر، وعلى نحو اكبر للدول الكبرى.
وتنتشر في مضيق باب المندب العديد من الأساطيل والبوارج الحربية التابعة لدول أقليمية ودول كبرى، إضافة الى احتضان جيبوتي لأكبر قاعدتين في أفريقيا للولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والمطلتين على باب المندب. أما إيران واسرائيل ، فلهما مصلحة شديدة بالانتشار في هذه المنطقة، وبحسب تقرير صدر عن مركز "ستراتفور" للدراسات الأمنية والاستراتيجية عام 2012 فإن لكل من الدولتين حضورا عسكريا في إريتريا. فلإسرائيل وحدات بحرية صغيرة في أرخبيل دهلك وميناء مصوع، ومركز للتنصت في جبال أمبا سويرا.
من جهتها، وقعت طهران استناداً الى التقرير، اتفاقاً مع أريتريا تحتفظ بموجبه ايران بقوة عسكرية في أساب، والسبب الرسمي هو حماية المصافي التي توجد في تلك المنطقة.
من ناحية أخرى، دخلت تركيا على خط التنافس في هذه المنطقة، ولا سيما في الصومال، من بوابة النشاط الاقتصادي والانساني والإغاثي، وهذا ما يفسر الزيارات المتكررة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى الصومال أكان في أغسطس عام 2011 حين كان رئيساً للوزراء، أو في كانون الثاني/يناير الماضي. وقد تمكنت شركة تركية من الفوز في أيلول/سبتمبر 2014 بعقد لإدارة ميناء مقديشو لعشرين عاماً، ما يرسخ ويعزز النفزذ التركي في هذه المنطقة.
وفي أواخر عام 2014، عقدت دولة الإمارات العربية المتحدة اتفاقية عسكرية مع الصومال بهدف تعزيز التعاون الثنائي في "الشؤون العسكرية بين البلدين".

اليمن الخاسر الأكبر

على الرغم من أن ثروة اليمن من مصادر الطاقة تعد محدودة جدا، إذ يقدر إنتاجه الحالي من النفط بنحو 130 ألف برميل يومياً مقارنةً بـ 9.5 ملايين برميل تنتجه السعودية كل يوم، إلا أنه يبقى المتأثر والمتضرر الأكبر من استمرار الحرب فيه بما سيزيد من مشاكل الفقر المزمنة التي يعانيها أصلا، وغياب فرص التنمية إضافة الى حرمانه المزيد من عائداته النفطية التي تراجعت من 2.7 مليار دولار في عام 2013، الى 1.7 مليار دولار في عام 2014 بسبب التراجع المستمر في الإنتاج والتصدير.
وتقدر الخسائر التي سيتكبدها اليمن بحدود 5 مليارات دولار من عائدات تصدير النفط وتجارة سلع أخرى في حال تواصل الأعمال العسكرية والاضطرابات الأمنية.

النفط يترقب

في حال وصول شظايا الحرب الى مضيق باب المندب، فمن المتوقع أن تشهد أسعار النفط ارتفاعاً ملحوظاً بسبب الخوف من تراجع الإنتاج وعرقلة نقله الى الأسواق العالمية.

تأزم الوضع العسكري في
اليمن والخليج بما يؤدي لعرقلة حركة الملاحة في باب المندب سيجعل لبنان جزيرة معزولة عن محيطها


أما دول الخليج التي تعتمد اقتصاداتها على نحو رئيسي على عائدات النفط، وبنسب تراوح بين 60 الى 95%، فإن ارتفاع أسعار النفط لن يكون نعمةً لهذه الدول، وخاصة في حال تطور مجريات الأحداث وتعرض حقول ومنشآت نفطية سعودية لاعتداءات. فاقتصادات دول الخليج لن تكون بمنأى عن هذه التطورات، وخصوصاً إذا أخذنا في عين الاعتبار ارتفاع تكاليف العمليات العسكرية، وعزوف السياح والمستثمرين عن التوجه الى هذه الدول.

التأثيرات في لبنان

بعدما اعترضت الصادرات البرية للمنتجات اللبنانية عبر سوريا تعقيدات وصعوبات كبيرة نتيجة الحرب الدائرة هناك، توجهت الصادرات بحراً نحو الخليج.
وعلى الرغم من أن الاقتصاد اللبناني لا يزال بمنأى عن الأحداث الجارية في اليمن نظراً إلى ضعف العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فإن أي تأزم في الوضع العسكري في اليمن والخليج بما قد يؤدي إلى عرقلة حركة الملاحة في باب المندب، "سيجعل لبنان جزيرة معزولة عن محيطها بكل ما للكلمة من معنى" بحسب الخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي.
ويرى يشوعي أن التصدير في هذه الحالة سيكون أكثر تعقيداً وصعوبة من الاستيراد، ففيما يبقى بإمكان لبنان الاستيراد من أوروبا وأفريقيا وآسيا عبر خطوط بحرية أخرى، إلا أنه سيجد صعوبة في استبدال زبائنه في الخليج بزبائن آخرين. فمن السهل أن تكون زبوناً، ولكن من الصعب أن تجد زبونا.
لذلك يدعو يشوعي الى ابتكار سياسات داخلية للاقتصاد اللبناني لا تعتمد على التصدير، بل على تحريك العجلة الاقتصادية محلياً عبر تطبيق قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتخلي الدولة من دون بيع عن كل الخدمات العامة وبتحرير البنك المركزي لبضعة مليارات من الدولارات التي الأموال يعقمها في صناديقه للاستمرار بتثبيت سعر صرف الليرة.
أما عميد الصناعيين جاك صراف، وعلى العكس من يشوعي، فرأى أن المشكلة الأكبر ستكون على الواردات لا على الصادرات ما سيؤدي الى ارتفاع الكلفة.
وفي ما يتعلق بالامدادات النفطية وتأثيرها في لبنان في حال تعرقل مرور ناقلات النفط عبر مضيق باب المندب أكد كل من يشوعي وصراف أنه ما من خوف في هذا المجال، نظراً لإمكانية جلب النفط من مصادر أخرى، وخاصة أن السوق استورد كثيراً من إيطاليا في السنة الماضية، حيث يجري تكرير النفط وإرساله إلينا.
ختاماً، وبالعودة الى المعاني اللغوية، نرجو أن يكون باب المندب جسر "عبور وانتقال" نحو السلام والرفاهية والاستقرار للمنطقة بدل أن يكون مصدر ندب.