تتمتع بلدان مجلس التعاون الخليجي بخزنة غنية فعلاً. 2300 مليار دولار من الاحتياطات الأجنبية ــــ أي العملات الصعبة التي تحصّلها أساساً من تصدير النفط ــــ تُشكل سداً منيعاً لحماية اقتصاداتها ونقدها وتوفّر لها رافعة سياسيّة في مشاريعها المختلفة إقليمياً وحتى دولياً. غير أنّ هذه الأموال كلها لا تكفي لاحتواء لعنة تراجع أسعار النفط، وتجعل هذه البلدان الستّة في وضع حرج نسبياً مقارنةً بالبلدان غير النفطية في المنطقة وفي مقدمتها لبنان.
أخيراً، بدأ تأثير تراجع سعر النفط على اقتصادات المنطقة والمالية العامّة لبلدانها أكانت منتجة للنفط أم متعطشة لاستيراده، يظهر جلياً؛ غير أنه ليس موحّداً بين الكيانات المعنيّة. ففيما تفيد البلدان المستوردة للوقود الأحفوري من تراجع الأسعار، تعاني البلدان المصدّرة التي كانت تقليدياً اللاعب الرابح، من ضعف إيراداتها.

الأكثر تأثراً

السعودية التي تُعدّ إحدى أقوى البلدان النفطية وأكثرها نفوذاً في العالم في مجال الطاقة، تشعر بهذا التحول على وجه الخصوص. فقد شهدت المملكة تراجع تصنيفها من قبل وكالة "ستاندارد إند بورز" (S&P)، من مستقر إلى سلبي. بحسب تقرير الوكالة الأميركية فإنّ المعطيات المالية العامّة في المملكة تسجّل ضعفاً ملحوظاً نتيجة تراجع الإيرادات النفطية مع تدهور سعر برميل الوقود الأحفوري. ومن الممكن أن يتم خفض التصنيف أكثر خلال المراحل المقبلة في حال تراجعت قيمة الأصول السائلة التي تملكها السعودية دون ناتجها المحلي الإجمالي – أي دون حجم اقتصادها الذي يُعدّ الأوّل عربياً.
هبوط أسعار النفط ليس هيناً أبداً على المملكة حتّى لو أنه من صالحها حالياً – ومن فِعلها أيضاً - كونه يحفظ وضعيتها السوقية ويمنع للاعبين الجدد الذين يزدهرون بفضل تقنيات استخراج النفط الصخري، من حجز مقاعد متقدمة في السوق.

لا يُمكن تجاهل تأثير قرابة
1.5 مليار دولار على مالية البلاد وعجزها، والأهم على هامش المناورة المتاح لها لتحقيق
مشاريع مهمّة


فمن قطاع النفط تولّد السعودية أكثر من 40% من ناتجها المحلي الإجمالي و90% من إيراداتها الإجمالية و85% من صادراتها. وعلى شاكلتها هناك بلدان نفطية كثيرة يقضم من ماليتها ومن نفوذها هبوط سعر النفط.
أخيراً، حذّر المصرف الاستثماري الإقليمي "هيرمس" (EFG Hermes) من أنّ المعدل الوسطي لنمو اقتصادات بلدان مجلس التعاون الخليجي سيتراجع هذا العام إلى 3.1% بعدما كان 4.5%؛ واللافت هو أن هذا النمو سيكون مدفوعاً من القطاعات غير النفطية.
غير أن "التحدي الكبير" لتلك البلدان سيكون عام 2016 في حال بقيت أسعار النفط عند مستويات منخفضة. من هنا يرى المصرف الاستثماري أن تطبيق الإصلاحات الهيكلية في بلدان مجلس التعاون الخليجي يُعدّ ضرورياً لخفض الاعتماد على النفط.
وفي المجال المالي، يتوقع المصرف أن تُسجّل جميع البلدان الخليجية عجزاً في حساباتها العامّة؛ أكبر تلك العجوزات ستعاني منه عمان ويبلغ 18.7% من الناتج وأقله ستسجّله قطر ونسبته 2.6%.

إيجابية نسبية

في مقابل هذه المعطيات الخليجيّة الضعيفة، تبرز صورة إيجابية نسبياً من بلدان أخرى أبعد ما يُمكن وصفها بأنها على شفا الازدهار أو أنها تشهد أفضل مراحلها الاقتصادية. إنها بلدان المنطقة ذات الاقتصادات الصغيرة والتي تعاني تاريخياً من إرهاق حاد على مستوى الفاتورة النفطية.
فقد لاحظ البنك الدولي في تقريره الاخير عن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أخيراً، أن إحدى أهمّ نتائج انهيار أسعار النفط، على المستوى الإقليمي، ستكون انتعاش المؤشرات الاقتصادية والمالية في البلدان المستوردة للنفط، وهي لبنان، الأردن، تونس، ومصر؛ وتحديداً على صعيد توازن المالية العامّة والحسابات الخارجية.
برأي خبراء البنك فإنّ الميزان التجاري في تلك البلدان سيسجّل تحسّناً قد يصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي ما خصّ لبنان تحديداً ــــ البلد الذي يعاني الأمرّين على المستوى الاقتصادي والمالي نتيجة دينامية سياسته الداخلية وبسبب تداعيات الصراعات الإقليمية ــــ يبدو أن الأمور في تحسّن ملحوظ، ويؤكّد ذلك المصرف الأميركي Citigroup في تحليله الأخير عن منطقة الشرق الأوسط.

فاتورة لبنان تتراجع

يقول المصرف إنّ الفاتورة النفطية للبنان ستتراجع هذا العام باكثر من 1.2 مليار دولار وأنها ستبلغ 5.2 مليارات دولار، أي ما يُشكّل وفراً في الحساب الجاري نسبته 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
وعلى مستوى المالية العامّة سيُساهم انخفاض أسعار النفط في تراجع العجز الذي تعاني منه مؤسسة كهرباء لبنان؛ ومن شأن هذا التراجع أن يؤدي إلى انخفاض النفقات العامّة بنسبة 1.5% قياساً بالناتج.
في بلد استقبل أخيراً أكثر من مليون لاجئ سوري – من دون أي دعم خارجي لاحتوائهم اجتماعياً - وأساساً يعاني من مشاكل هيكلية على المستويين الاقتصادي والسياسي، لا يُعدّ تأثير أسعار النفط سوى حقنة مورفين لتخطي بعض العوائق المالية في هذه المرحلة الحساسة. في الأساس، يعتمد لبنان على تدفق الودائع الأجنبية وعلى تحويلات المغتربين لتخطي مصاعب تمويل القطاعين العام والخاص عبر آلية مكلفة يعتمدها النظام المصرفي ويباركها النظام.
غير أنه لا يُمكن تجاهل تأثير قرابة 1.5 مليار دولار على مالية البلاد وعجزها، والأهم على هامش المناورة المتاح لها لتحقيق مشاريع مهمّة تساهم في توسيع الاقتصاد، خلق فرص العمل، ولعل وعسى تحسين مؤشرات الإنتاجية.
هكذا يجد لبنان نفسه مستفيداً على أكثر من صعيد من جراء تراجع أسعار النفط؛ من جهة، وعلى الرغم من أن هبوط الأسعار كان دراماتيكياً غير أنه حتّى الآن يبقى عند حدود تستطيع البلدان الخليحية تحمله وبالتالي الحفاظ على معدلات تشغيل القوى العاملة الأجنبية وأبرزها الجاليات اللبنانية التي تُعد أحد أهم مصادر التحويلات إلى لبنان؛ وهي أموال دسمة تُعادل 20% من اقتصاده.
ومن جهة أخرى، يؤمّن تراجع الاسعار هامشاً ضرورياً على مستوى المالية العامّة لتخفيف الضغوط التي تعاني منها.
السؤال يُصبح في هذه الحالة: هل يبقى تراجع سعر النفط نعمة على لبنان، أم يتحول نقمة كونه يُكرّس نمط تجاهل المشاكل ومعالجتها؟

للصورة المكبرة أنقر هنا