الانبهار. قد يكون التوصيف الأبرز لما يشعر به المرء عندما يراقب تفاصيل تداول الأسهم والأوراق المالية في السوق المالية الأهم في العالم، وول ستريت (Wall Street) التي تحضنها المدينة الأشهر في العالم، نيويورك. ولكن لا يفلح التألق التكنولوجي والبلوغ المالي في إخفاء بشاعة المشهد الذي تحكمه ذئاب تنهش كل شيء تقريباً؛ وقد ظهر سلوكها خلال الأزمة المالية الأخيرة عام 2008.

هناك ما هو أغرب من سلوك هذه الذئاب. مثلاً، يُعدّ التداول الآلي للأسهم (High Frequency Trading) مسؤولاً عن أكثر من 50% من إجمالي حركة التداول في وول ستريت. هذا يعني أن نصف تداول الأسهم تنفّذه الحواسيب المبرمجة.
هذه السوق هي ركنٌ من النظام الاقتصادي المالي العالمي. ومثله، هي غير عادلة، تشوبها التشوّهات وتحكمها الدورات.
أخيراً، شهدت هذه السوق اضطرابات مقلقة، حيث هوى سعر النفط إلى المستوى الذي سجّله خلال الأزمة المالية الأخيرة وأظهرت الأسهم تذبذباً مقلقاً للمستثمرين. اضطرابات، معطوفة على تباطؤ الصين وتأزم روسيا، تعكس أيضاً خللاً اقتصادياً وقد تشكّل منطلقاً لأزمة مالية جديدة.
ما يزيد من ضبابية المشهد هو النمط الذي تسجله سندات الدين الأميركية؛ برأي بعض المراقبين فإنّ هذا المؤشر هو الذي سيحدد ما إذا كان هناك أزمة جديدة في الأفق.
وفقاً لحسابات المجموعة المصرفية الأميركية، Citigroup، فإنّ معدّل الفائدة على سلّة الدولار، اليورو والين – وتُسمّى G3 أي العملات الثلاث الكبرى – هوت دون 1%، والفوائد على كل سند هي عند مستويات منخفضة تاريخياً؛ حتّى في ثلاثينيات القرن الماضي، أي خلال الركود العظيم، كانت الفوائد أعلى من السائد حالياً.
على الرغم من أن مؤشر الفوائد على الدين الأميركي غير كاف لتوقع تأزم محتمل، إلا أنّه يُشكّل أحد مقوّمات التحليل الذي يُفيد بأنّ الولايات المتّحدة على شفير المراحل الصعبة من دورتها.
يطرح الخبراء سيناريوهات كثيرة عن طبيعة المرحلة الاقتصادية التي ستدخلها الولايات المتّحدة خلال الفترة المقبلة. تاريخياً يُسجّل الاقتصاد الأميركي دورة اقتصادية تعادل 106 أشهر (ثمانية أعوام تقريباً)؛ أي الفارق الزمني بين أوجين اقتصاديين. واليوم نحن في الشهر 84، ما يعني أنه لا يزال أمامنا أقل من عامين قبل أن يحل الركود الأميركي المرتقب.
خلطة سامّة تجمع النفط
الرخيص، الركود الأوروبي، التباطؤ الآسيوي والترقّب الأميركي


ستكون للتأزم الأميركي، إذا حلّ قريباً، ارتدادات في جميع أصقاع الأرض. إذ في ظل الركود الذي تعيشه أوروبا والتباطؤ النسبي الذي تمر به الصين، تتعزز أهمية الولايات المتحدة في تحريك الاقتصاد العالمي. وهي قد حقّقت في الربع الأخير أهم معدل نمو تسجله منذ عام 2003، أي منذ غزو العراق.
قد يكون هذا الانتعاش مؤقتاً، في ظلّ مؤشرات أخرى توضح مكامن الخلل. بحسب المعلّق الاقتصادي المتشائم، مايكل شنايدر، فإنّ سرعة الكتلة النقدية (M2) في الولايات المتّحدة هبطت إلى مستوى متدن قياسي "وهذا مؤشر قوي على أننا دخلنا مرحلة انكماش" على الرغم من أنّ "الاحتياطي الفدرالي (المصرف المركزي) يحاول مواجهة هذا الأمر عبر إغراق النظام المالي بمزيد من النقد".
يجزم شنايدر بأنّه إذا صحّت هذه المرة أيضاً نظرية الدورة الاقتصادية ذات الأعوام السبع فإن "الفترة بين العامين 2015 و2020 ستكون جحيماً خالصاً على الولايات المتّحدة".
فعلياً، تتصاعد أصوات كثيرة في المجال المالي الأميركي تُنبئ بحدوث المصائب هذا العام. المحلل المالي، دايفيد تايس، الذي له مآثره في توقع الحركات الدراماتيكية في السوق، قال أخيراً: "يراودني الشعور نفسه الذي راودني في فترتي 2005 ــــ 2006 و1998 ــــ 1999" أي عشية الأزمتين الماليتين الأخيرتين. "لدي ثقة كاملة بأن (ما يحدث حالياً في السوق المالية) سينتهي سيئاً".
توقّع آخر أطلقته المحللتان الماليتان مع "بلومبرغ"، ليز ماكورميك وسوزان والكر: "استعدوا لعام كارثي لسندات الدين الأميركية، إنها الرسالة التي يبعثها المحللون في وول ستريت".
هناك رؤية أكثر سوداوية لما يحدث: الأزمة المالية عام 2008 لم تكن سوى البداية، والانهيار المسجل في إدارة أسعار النفط حالياً إضافة إلى العوامل النقدية والمالية التي تُشكّل الخلطة الملائمة للاضطراب، كلها تُهيئ لانتهاء المنظومة الغربية ــــ الديموقراطية، الاقتصادية والمالية ـــــ التي يشهدها العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. "سيظهر في عام 2015 الانهيار الكامل للعالم الغربي الذي نعرفه منذ عام 1945؛ سيكون عبارة عن بركان هائل سينشر حممه في كل الكوكب"، وفقاً لما ورد أخيراً في ورقة نشرها مركز الأبحاث حول العولمة، وهو مركز بحثي لا يبغي الربح يتخذ من مونتريال مقراً له.
القضية إذاً أبعد من دورة عاديّة للاقتصاد الأميركي أو للشركات العابرة للقارات، وتدخل فيها اعتبارات كثيرة.
مثلاً، يرى تيار اقتصادي سياسي آخر أن مخاطر أزمة اقتصادية مالية جديدة تعود بقوة مع عودة المحافظين إلى مراكز القرار في أكبر اقتصاد في العالم، وتحديداً منذ سيطرتهم على مجلس الشيوخ في الانتخابات النصفية، بعدما كانوا قد سيطروا على مجلس النواب من قبله. وربما يسيطرون على البيت الأبيض قريباً إذا فاز مرشحهم في الانتخابات الرئاسية.
ولكن المخاطر المالية ليست وليدة هذا المخيم حصراً، رغم شهرته باختلاق كافة انواع الكوارث من حروب وغزوات. فعلى رغم أن الرئيس أوباما أقرّ قانون إصلاح وول ستريت وحماية المكلفين إلا أنه أقرّر أخيراً إجراءً يطيحه كلياً.
القانون الإصلاحي المعروف أيضاً باسم السيناتورين اللذين صاغاه دود/ فرانك يهدف إلى منع المؤسسات المالية العملاقة من استغلال الأموال العامّة لتطوير أعمالها المربحة الخاصة ذات المخاطر العالية. إلا أن الرئيس الديموقراطي وقّع في نهاية 2014 قراراً يُعفي المصارف الكبرى من إنشاء كيانات أخرى غير مؤمّنة حكومياً لممارسة نشاطات المضاربة المالية؛ بكلام آخر، يسمح لها القرار بممارسة المضاربة المالية بضمانة حكومية (هي جزء من ميزانية إنفاقية بقيمة 1.1 تريليون دولار) – ما يعني أن وحوش السوق المالية استعادت قدرتها على المراهنة بالمليارات مع ضمان أن خسارتها، إن وقعت، ستُعوّض بأموال المكلّفين الأميركيّين.
السؤال الأساسي إذاً هو حول ما إذا كانت مجموعة العوامل السلبية المذكورة ستتضافر لتُشكّل العاصفة المثالية في السوق الأميركية لينتشر التأزم في باقي أقطار العالم تماماً كما حدث في الأزمة الأخيرة.
ما يميّز هذه الخلطة السامّة للنظام المالي القائم، هو أنها تجمع النفط الرخيص، الركود الأوروبي، التباطؤ الآسيوي والترقّب الأميركي. كل ذلك في إطار من التحوّلات العالمية التي تضرب مراكز النفوذ؛ هكذا خلطة كفيلة باندلاع الحروب العالمية، وليس فقط الأزمات المالية.




3.5 مليارات لبنانية... بين أزمتين

خلال الأزمة المالية عام 2008 وما بعدها، قطف لبنان ثماراً كانت لفترة طويلة محرمة عليه سياسياً واقتصادياً. هكذا هربت الأموال من المراكز المضطربة واستقرت فيه لتغرق نظامه المصرفي وتُشكّل أساس "البحبوحة" عبر القروض الرخيصة التي أنعشت القطاع التجاري تحديداً.
ولكن منذ انتهاء تلك البحبوحة في نهاية عام 2011، بالتوازي مع التأزم السياسي الداخلي على خلفية اضطرابات إقليمية رهيبة أهمها الحرب السورية، بدأت مرحلة عض الأصابع. البلد معتاد على الاضطرابات لا شكّ، فهو حتّى في أحوال الهدوء معرّض في أي لحظة لهزّة أمنية أو سياسية. السبب في ذلك هو أن أساسيات صموده الاقتصادي هي الأموال المتدفقة من حسابات المغتربين، وأيضاً من القنوات السياسية. ولكن التباطؤ اللبناني الأخير، أي في فترة 2012 ــــ 2014، كان خاصاً وتحديداً للقطاع الذي يُعد الأهم في الاقتصاد: المصارف.
فقد عمد المصرف المركزي إلى تأمين أموال رخيصة للبنوك التجارية (هي عبارة عن رزم تحفيز) لتنشيط نشاطها ودعم أرباحها، بلغت 1.47 مليار دولار عام 2013 وقرابة 930 مليون دولار عام 2014. ويبدو أن هواجس حاكم المركزي، رياض سلامة، حول سير النظام كعادته مستمرة. فقد أقر أخيراً رزمة جديدة بقيمة تقارب مليار دولار هي عبارة عن نقد رخيص بفائدة لا تتخطى 1%. هكذا يكون مصرف لبنان قد دعم مصارفه بقرابة 3.5 مليارات دولار خلال أقل من ثلاثة أعوام.
اللافت في هذا الدعم هو أنه أتى مباشرة بعد أزمة عالمية، وإذا وقعت أزمة جديدة في المرحلة المقبلة، يكون الدعم قد تحقق بين أزمتين. غير أن الأزمة المقبلة قد تكون مختلفة، إذا فعلاً تحققت اسوأ سيناريوهاتها، لأن الفارق هذه المرة هو أن تيّار أموال المغتربين المتدفقة من الخليج سيكون أضعف نظراً لتراجع أسعار النفط إلى نصف معدلها خلال السنوات الأربع الماضية.
كما أن دبي تُعدّ في حال أفضل بكثير عما كانت عليه قبل سبع سنوات، ولذا فإنّها تسرق الكثير من البريق المالي اللبناني. علينا ألا ننسى أيضاً أن هذا البريق يخفت تدريجاً نتيجة المنافسة طبعاً، ولكن أيضاً بسبب ما تتعرض له السرية المصرفية نتيجة القوانين والإجراءات الغربية تحت عنوان تعزيز الشفافية ومكافحة الإرهاب المالي.