الانتظار. كلمة واحدة تلخّص الواقع اللبناني برمته، في كل نواحيه السياسية، الاقتصادية، الثقافية، والاجتماعية. الكل ينتظر الفرج، والعجائب، والحلول، والتعيينات، والانتخابات وما بعد الحراك الشعبي... المستثمرين. تماماً كما في مسرحية «في انتظار غودو»، التي تدور حول شخصيتين هما «استراجون» و»فلاديمير»، ينتظران شخصاً يدعى «غودو» لا يأتي.

في هذه المسرحية يضحّي الكاتب بالعنصر الدرامي، حيث لا مقدمة، لا أزمة، لا تطور في الأحداث ولا حل. بل مجرد ثرثرة متواصلة، وهو ما يتفق مع الهدف الذي يرمى إليه والذي يكرره مرات عدة على لسان شخصياته، إذ يقول: «لا شيء يحدث». كما الحال في لبنان.
لكن على رغم الانتظار الطويل، وعدم مجيء «غودو»، يبقى الأمل قائماً. فهل يأتي المستثمر إلى لبنان؟ وما هي أبرز القطاعات الواعدة التي يمكنه الاستثمار فيها؟

سراب المستثمرين

«لا استثمارات أجنبية في لبنان حالياً»، بحسب رئيس اتحاد الغرف اللبنانية محمد شقير، «فعلى رغم وجود أحاديث كثيرة عن استثمارات بملايين، لا بل بمليارات الدولارات، إلا أنها لا تعدو كونها مجرد أقاويل. أما على الأرض وعملياً، فلا يوجد شيء».
ويوضح قائلاً: «أجرينا نقاشاً مع «المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان» (إيدال)، وسألناهم عن الاستثمارات بمليارات الدولارات التي يتحدثون عنها. فقد مضت ثلاث سنوات منذ أن أعلنوا عن هذه الاستثمارات، فهل جرى الاستثمار فعلاً أم بقي حبراً على ورق؟». ويضيف أن الفترة الممتدة بين 2007 و2010 شهدت نمواً وتدفقاً للاستثمارات الأجنبية راوحت بين 4.5 و5.5 مليارات دولار سنوياً.

لم يعدل حرف واحد في مشروع تشجيع الاستثمار خلال 15 عاماً، بينما عدل 6 مرات في السودان منذ عام 2000

وعلى المنوال نفسه، يؤكد الخبير المالي وليد أبو سليمان، أن الاستثمارات الخارجية في لبنان منخفضة جداً، ولم تعد دول الخليج من المستثمرين البارزين في لبنان، نظراً إلى التشابك السياسي الحاصل، فيما يتصدر قائمة المستثمرين الذين ما زال لبنان يجذبهم، المغتربون اللبنانيون، وبخاصة من أفريقيا.
ووفقاً لأبو سليمان، انخفضت الاستثمارات الواردة إلى لبنان من 4.67 مليارات دولار عام 2011 إلى 2.60 مليار دولار بنهاية 2014.
وفي السياق عينه يقول رئيس مجلس الإدارة المدير العام لـ»إيدال» نبيل عيتاني، إنه نتيجةً للمتغيرات والأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تراجعت الاستثمارات في هذه المنطقة من 5.3% من الاستثمارات المتداولة في العالم إلى 3.5% بين عامي 2011 و2014. ولأنّ لبنان جزء من هذه المنطقة ويتأثر بالأحداث الجارية، شهدت الاستثمارات في لبنان تراجعاً بلغ نحو 40% بين عامي 2010 و2014. ويوضح عيتاني «أن المؤسسة في استراتيجيتها توزع المستثمرين إلى 3 شرائح: الأولى، وهي الشريحة الأكبر، تضم اللبنانيين المقيمين والمغتربين، وتُسهم بنحو 75% من الاستثمارات في لبنان. فيما تشمل الشريحة الثانية العرب ورعايا دول الخليج الذين يشكلون نحو 15% من المستثمرين. أما الثالثة فتضم الشركات المتعددة الجنسية التي تعتمد لبنان مركزاً لتوزيع خدماتها على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أثرت الأزمة السورية والأحداث السياسية في لبنان على الشريحتين الثانية والثالثة».

عوامل غير جذابة

يعزو شقير الركود والتراجع الحاد في الاستثمارات الواردة إلى لبنان إلى عوامل عدة، أبرزها الوضعان السياسي والأمني وعدم الاستقرار الضريبي. ويضيف: «أحد الأسئلة التي طرحت علينا خلال جولتنا على دول الخليج: ما هو الحد الأدنى للأجور الذي يجب أن يعتمد في الدراسات لتبيان الجدوى الاقتصادية من الاستثمار في لبنان. هل هو 400 دولار أم 650 دولاراً؟ وهل الضريبة المفروضة هي 20% زائداً 10% توزيع، أو 30% زائداً 10% توزيع أو 25% زائداً 10% توزيع؟».
وبحسب رئيس اتحاد الغرف اللبنانية، إن مخاطر عدم الاستقرار الضريبي لا تقتصر فقط على الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بل تشمل أيضاً المستثمرين اللبنانيين الذين اضطر الكثير منهم إلى إغلاق مصانعهم ونقل إنتاجهم إلى خارج لبنان.
ويؤكد أبو سليمان أن النظام الضرائبي في لبنان في حاجة إلى إعادة نظر برمته. ولكن، على رغم ضبابية هذا النظام، هناك مؤسسات كـ»إيدال» يمكن المستثمر اللجوء إليها ليستوضح عن النظام الضرائبي. ويلفت إلى أن في فرنسا نظاماً لتحفيز الشركات التي تخلق فرص عمل، فبدل الإعفاء من الضرائب، تعطى الشركة 4000 يورو سنوياً عن كل فرصة عمل تخلقها. «وعلينا بالتالي أن نعيد النظر في السياسة الضريبية. لكن لأننا نعيش في دولة فاشلة حالياً حيث جميع المؤسسات الدستورية معطلة ولا توجد موازنة، أستبعد أن يحصل هذا الأمر في القريب العاجل».

الحلول المقترحة

يتوافق كل من شقير وأبو سليمان وعيتاني على أن جذب المستثمرين يحتاج إلى استقرار أمني وسياسي، وهو ما يحققه بالنسبة إلى شقير انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وحدة وطنية فعالة، لا حكومة يكون فيها كل وزير رئيس جمهورية ورئيس حكومة في الوقت عينه. ويستغرب شقير كيف أن مشروع تشجيع الاستثمار الذي يعود تاريخه إلى عام 2000، لم يعدل فيه حرف واحد خلال 15 عاماً، في الوقت الذي عدل فيه قانون الاستثمار في السودان 6 مرات خلال 15 عاماً، إضافة إلى الضرورة في تعديل هذا المشروع يجب تطوير الكثير من القوانين في لبنان.
كذلك إن جذب المستثمرين وتطوير الأطراف والمناطق الأخرى غير بيروت وجبل لبنان يكون بإنشاء مدن صناعية معفاة من الضرائب لعدد معين من السنوات. ويشدد شقير على أنه يجب وضع خطط لنقل جميع المصانع خلال الـ 10 و 20 و 30 سنة المقبلة إلى هذه المدن الصناعية والأطراف، ويجب أن يكون هناك 3 أو 4 مدن اقتصادية في الجنوب وزحلة، لافتاً إلى أنه «في الشارقة وحدها توجد 23 مدينة اقتصادية، وفي دبي 27 مدينة اقتصادية».

تراجعت الاستثمارات في منطقة الشرق الأوسط وشمال
أفريقيا من 5.3%
إلى 3.5% بين الأعوام 2011 و 2014

إضافة إلى ما تقدم، وإلى تشديده على أهمية إنشاء مناطق حرة في لبنان ومدن صناعية، نظراً إلى مردودها الكبير على الدولة اللبنانية وكونها تسمح بتوزيع النشاط الاقتصادي وتنويع الاقتصاد، فلا يعود اقتصادنا ريعياً أو خدماتياً بامتياز، يقول أبو سليمان إنه يجب توفير البنية التحتية وأبسط مقومات الصمود للمستثمرين، لكي يتمكنوا من إقامة وتطوير مشاريع، أكانت هذه المشاريع عقارية أم سياحية أم استشفائية... ويجب تحفيز القطاعين الزراعي والصناعي في لبنان اللذين كانا يشكلان حتى أوائل السبعينيات 40% من الاقتصاد الوطني.

القطاع الواعد

على الرغم من التضارب في الآراء بين أبو سليمان الذي يعتبر أن القطاع العقاري لا يزال يشكل عامل الجذب الأول للمستثمرين، وعيتاني الذي يرى أن القطاع السياحي هو الجاذب الأكبر للمستثمرين تاريخياً، أكان من حيث عدد المشاريع أو من حيث حجم الاستثمارات، إلا أن القطاع الصناعي يشهد نمواً ملحوظاً وجذباً متزايداً للاستثمارات.
وفي هذا السياق يقول عيتاني إن القطاع الصناعي شهد نمواً واضحاً خلال عام 2014. ففيما كان حجم الاستثمارات في القطاع السياحي يبلغ نحو 72% مقارنة بـ 17% للقطاع الصناعي، تمكن القطاع الصناعي من جذب 30% من الاستثمارات الواردة أخيراً.
لكن يبقى مستقبل لبنان من دون منازع هو قطاع المعرفة والتكنولوجيا في نظر محمد شقير. وهذا القطاع هو أهم قطاع واعد بحسب أبو سليمان، وقد بدأ مصرف لبنان بدعمه عبر القروض. فرأسمال لبنان البشري أهم من الرأسمال الموجود تحت البحار من نفط وغاز.
ما يلزمنا في لبنان هو التقليل من الثرثرة والعمل الدؤوب والجدي لتنشيط الاقتصاد وتفعيله، سواء أتى «غودو» أم لم يأت.