عاماً واحداً لم تعمَّر «واقعية» الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. عام واحد كفى من ولايته لكي تتبدّد ادعاءات كثيرة بالانعطاف بالسياسة الخارجية لسلفيه نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولند، نحو واقعية أكبر في التعاطي مع قضايا العالم، ضلّ الرئيس السبيل إليها. كان ماكرون قد افتتح مسيرته، كما ينبغي برجل قادم من خارج السرايات والمؤسسات التقليدية، بقوة شرعية صناديق الاقتراع وبرنامج للتغيير، وإلحاح على مراجعة السياسة الخارجية لسلفيه التي هيمنت عليها مقاربة المحافظين الجدد، لاستعادة القدرة على التحدث إلى الجميع: روساً وإيرانيين وعرباً. لا بل ذهب في مقابلة رأس السنة الحالية، إلى الزعم أنه لم يعد يسعى إلى تغيير النظام بالقوة في سوريا، فبقاء الرئيس بشار الأسد أو ذهابه شأن السوريين لا غيرهم.لكن الطبع قاسٍ لا يرحم، وهو غالب راجم للتطبع. فالولادة من خاصرة الأسواق المالية والمصارف ومن تكوين أكاديمي وسياسي في أوج صعود الليبرالية، وازدهار مقولاتها البائسة في التسعينيات، نما وتجذر في حرفة الربا والصرافة في بنك «روتشليد»، أعجز من أن يجترح مخيّلة لمستقبل تسمو بها فرنسا عن التبعية للولايات المتحدة. فالانكباب على القراءة لا يهب بالضرورة مفاتيح الحكمة في العلاقات الدولية. فالرئيس قارئ نهم، على ما تقوله أقاصيص ورواة سيرته، لكن عالمه الذهني لا يزال محكوماً بتجربته المصرفية إلى حد بعيد، ينهل منها فهمه للسياسة والوساطة، مثله مثل أي رجل لم يقرأ كتاباً واحداً.
فرغم اختلافه عن دونالد ترامب الذي لم تبلغ به مغامراته الثقافية حدود المخاطرة بقراءة كتاب بأكمله، على ما يروى عنه، إلا أنه يتقاسم وإياه عالم الأعمال خلفية ومسيرة، وإتيانهما الإليزيه والبيت الأبيض من وراء ظهر النظام السياسي التقليدي وأحزابه، كذلك يتقاسمان الانتصار على مراكز الأبحاث والاستطلاع ووسائل الإعلام في رئاسيات فرنسا والولايات المتحدة، وتكذيبهما كل التوقعات بالهزيمة. ولهما التصورات نفسها عن أن شرط النجاح في العلاقات الدولية هو نفسه ما يشترط في ميادين الصفقات المالية، ورهين ما يبنى في الحيّز الشخصي من علاقات مع أقوياء العالم، وليس ما ينهض منها على رؤية استراتيجية تدافع قبل كل شيء عن المصلحة الوطنية.
إن إصرار ماكرون على التذكير دوماً في كل المقابلات على ما يجمعه بترامب لا ينفصل عن سعيه ونجاحه ببناء علاقة مميزة مع الرئيس الأميركي حيث فشل زعماء كثيرون في أوروبا. بل ويقال إنها أفضل علاقة بين ترامب وأي رئيس آخر، يدعوها الإعلام بقصة «الأخوة الرومانسية». فإلاصرار على الشراكة مع الولايات المتحدة يفصح عن الرؤية الحقيقية لماكرون لدور فرنسا من موقع أدنى وتابع، أو وسيط عامل لحسابها أو ساعي بريد دولي لها. إن الأزمات العالمية تكشف السياسات الفعلية للدول، فالتأزم الذي تفتعله أميركا حول الاتفاق النووي، كشف حقيقة الموقف الفرنسي الذي عارض مبدئياً قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، ليناور ويطالب بما هو لا يقلّ خطورة عنه، بوضع البرنامج البالستي البعيد المدى تحت الرقابة الدولية. وجاء في المقابلة التهديد بعقوبات إذا لم تمتثل إيران لذلك الطلب، تماماً كما يهدد بذلك ترامب، فأين هي الواقعية الماكرونية؟
في تراكم التطورات الأخيرة ما ينبئ بحقيقة التوجهات الفرنسية. في الطبقة الأولى منها التبني الفرنسي الكامل للاستراتيجية الأميركية في إيران لتجريدها من برنامجها البالسيتي، وقوتها الرادعة الحقيقية. ففي المقابلة التي أجراها مع «فوكس نيوز»، قناة ترامب وجمهوره المحببة، أظهر ماكرون عدائية أكبر لإيران، برفضه أيضاً الانسحاب الأميركي من سوريا، خشية تركها لقمة سائغة لإيران وحلفائها. رأى ماكرون أن انتصار إيران وحلفائها مقدمة لحرب جديدة سيشنونها انطلاقاً من سوريا. لم يقل الرئيس الفرنسي في مقابلته ضد من ستشن تلك الحرب. ولكن مع قليل من التأمل، يبدو بديهياً أنه يعني أنها ستشنّ ضد إسرائيل. أولاً، إن هذا الموقف من الانسحاب الأميركي الذي يخشى على إسرائيل من هجوم مفترض لمحور المقاومة، سبقته مواقف أخرى تظهر انحياز الرئيس الفرنسي الأعمى إلى إسرائيل، إلى حدّ اعتباره العداء للصهيونية «الشكل المعاصر من العداء للسامية» على ما قال. وهو تصريح لم يجرؤ أي رئيس فرنسي سابق كساركوزي أو هولاند، لا غبار على انحيازهما إلى إسرائيل، على الإدلاء بمثله. بكلام آخر، دخلت السياسة الفرنسية طوراً جديداً من الانحياز إلى إسرائيل ضد العرب. تقلل هذه المواقف من أهمية معارضته لنقل السفارة الأميركية إلى القدس، إذ تلاها رفضه الطلب الضعيف للرئيس محمود عباس، الاعتراف بدولة فلسطين. من ثوابت السياسة الفرنسية، خلال حقبة الجنرال ديغول في الستينيات، والرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران خلال الثمانينيات ومنتصف التسعينيات، التمسك بالقرارات الدولية، والتميّز عن المقاربة الأميركية بتجنب الانحياز غير المشروط إلى إسرائيل. إن سياسة ماكرون تقطع مع كل تلك السياسات، ورغم أن سلفيه سبقاه إلى ذلك، ألا أنه لم يكن لهما ادعاءاته برفض سياسة المحافظين الجدد، ولا زعمه العودة إلى الواقعية نهجاً في السياسة الخارجية. فأين هي الواقعية الماكرونية؟
وثانياً، برفضه الانسحاب الأميركي من سوريا، يضمّ ماكرون صوته إلى الأصوات السعودية والإسرائيلية الأكثر تشدداً في الصراع السوري، والأبعد تطرفاً حتى من ترامب. إن النتيجة المباشرة لذلك هي تأجيج الحرب وتضييع الفرص لوقف نزف الدم في سوريا وتوسيع احتمالات المواجهة في الإقليم، فأين هي الواقعية الماكرونية؟
وفي الطبقة الأخيرة من التطورات ينبغي التنقيب أيضاً عن معنى مقالاته لـ«فوكس نيوز» التي تناول بها روسيا، والرئيس بوتين. فالقول إن «بوتين رجل قوي ويحاول زعزعة النظم الديمقراطية، وينبغي أن يظهر الغرب موحداً في مواجهته» يلقي ضوءاً جديداً على الانقلاب المفاجئ ضد روسيا بعد مقاربات تدّعي السعي إلى علاقة مختلفة مع موسكو، ودعوة بوتين إلى الإليزيه. كان يكفي خطاب «بوتيني» واحد عن عودة روسيا لاعباً متفوقاً في تكنولوجيا الصواريخ العابرة للقارات والمضادة للصواريخ في أوروبا، وتقويض أسس الدرع الصاروخية قبل شهر، ليفقد الاحتفاء ببوتين قبل عام بريق الشجاعة التي حفت بالقادم الجديد إلى الإليزيه. وتتخذ مذّاك المشاركة الفرنسية في قصف سوريا معنىً مختلفاً يعني تأكيد وحدة الغرب الذي عاد مصطلحاً يستخدم بكثرة في الماكرونية السياسية لشدّ العصب في مواجهة بوتين. فأين الواقعية الماكرونية؟
يذهب ماكرون إلى لقاء ترامب في البيت الأبيض للاحتفال بعودة الغرب على ضفتي الاطلسي إلى الوحدة. في حسابات الزيارة الفرنسية أيضاً الأمل بتثبيت الإعفاء الأميركي لأوروبا من الرسوم الجمركية على تصدير الصلب والألومنيوم. يعزز هذا البعد طموح الرئيس الفرنسي لكي يصبح الناطق باسم المصالح الأوروبية والمدافع عنها لدى واشنطن، ويعزز بالتالي الموقع الفرنسي في الثنائية الألمانية الفرنسية التي تقود الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعد اقتراب بريطانيا من بوابة مغادرته.
وأمل آخر لا بد منه كي تنجو الماكرونية من خيبة أخرى بعد خيبتها في ملف أقل أهمية بانتزاع تراجع عن الانسحاب من سوريا، هو استصدار موقف أو تعهد من الرئيس الاميركي بتأجيل إعلان الانسحاب من الاتفاق النووي في الثاني عشر من أيار المقبل، والقبول لقاء ذلك بوساطة فرنسية تنتزع من إيران صواريخها وبرنامجها الصاروخي، وتحقق الأهداف المشتركة لترامب وماكرون، وتعزز موقع فرنسا... كساعي بريد للولايات المتحدة.
إن تخلّى ماكرون عن مزاعمه الاستقلالية والواقعية، وانقياده مجدداً خلف الولايات المتحدة وأترابه الأوروبيين، ورفعه شعار توحيد الغرب، سيجعل المشهد العالمي أقرب ما يكون لنبوءات صموئيل هنتغتون الذي رأى في «صراع الحضارات» أن المآل النهائي للتطورات الدولية يدفع باتجاه المواجهة بين الغرب في خندق، وما بقي من العالم في خندق آخر.