«هو الليلُآخر هذا اليقين.
هو الليلُ
أولُ هذه الظنون» محمد عبد الباري/مرثيّة النار الأولى.


ربّما لا ينتبه معظم الناس إلى أنه حتى عندما تكون أحوال الطقس غائمة، تكون للطقس مشهديته الكاملة، وأنه أيضاً من المثير أن يشكل الليل مشهداً قائماً في حدّ ذاته، مهما بدت عتمته دامسة. كأن الطقس الغائم والليل الحالك متلازمتان لو استثنينا أن لليل مناخاته الخاصّة، طقسه الفريد أو بالأحرى «طقوسه» السحرية كالقراءة والكتابة. ألم نجعل مفتاح الترجمة في العربية مناماً رآه الخليفة المأمون فكان من مفعوله أن دخل أرسطو بفلسفته الإغريقية إلى بهو اللغة العربية من بوّابة المنامات، وولدت ثنائية العقل والنقل؟ ألم تكن مقامات الزمخشريّ هي بنت منام بحسب ما يقول في فاتحتها؟
لقد قال العرب قديم: «إنّها ليلةٌ ذبغانية» وهي كناية تصف الأرقِ المزمن. الأرق الذي شكّل مادة شعرية غنية للنابغة الذبياني الذي ما انفكّ ينشد بشعره النوم بدل الأطلال. الأرقُ والمنام هما الكلمتان اللتان تشذّان عن كلّ مفاهيم النهار، لذلك هما الحدّ الذي يمكن أن نفرّق به بين الليل والنهار. فكلّ عناصر الليل، يمكن أن توجد في النهار إلا الأرق والمنام. هما وحدهما الإمكانية العظيمة التي من خلالهما علينا أن نغرفَ من سواد الليل حفنةً وجوديّةً لنملأها بالحلم وبالتأمّل حيناً، ولنندهش من وضوح المعنى حين يقول محمود درويش: «لا سرّ في جسدي أمام الليل» حيناً آخر.

(«باتمان»، بريندن ويبر)

الليل عجينتنا السوداء، والسواد هو استعارة للدلالة على الفراغ. لا يتّخذ الفراغ حمولتَه إلاّ حين يُعَبَّأ. هذه معادلة بديهية، مشروطة بعملية الامتلاء، أي بكيفية الملء. فالوعاء الممتلئ بالهواء يبقى وعاء فارغاً مثلما أن الليل المليء بالنائمين هو ليلٌ فارغٌ. الليل إذاً، في العمق، هو عجينتنا السوداء والعجينة كما نعرف، مطّاطة، قابلة للتشكُّل كما يريدها عاجنُها. ولأنه «لا توجد حقائق إنما تأويلات» كما يقول لنا نيتشه، فلا يمكن لأي عجينة أن تتحوّل إلى صبّة إسمنتية، أي أن تصير عموداً مشيّداً لا يتزحزح. يكفي أن ندرك أن لكل ليلٍ ساهره. من هنا، يصبح الليل بتأويلنا هنا، مملوءاً باختلاف ساهريه، وبتعبئة الليل كلّ ساهرٍ على طريقته. يبدو الأمر شبيهاً بعض الشيء بألاعيب «التفكيكيين» الذين غاصوا في اللغة وأصرّوا على الكشف عن أوجهها المتعددة وما تخبئه ظلالها. إلا أننا، في «تفكيكنا» لليل، نعاين الليل عن كثب، نرصد نجومه كما يفعل الفلكي راصد أحوال الطقس، ونفتح حفرة صغيرة وسط ظلام الحالك ليبان «ليلنا» على من يقرأنا، على غرار تعرّي النصّ للقارئ كما فعل «التفكيكيون» في حقول الأدب.
في فيلم «أفكّر في إنهاء الأمور» يُسمع صوتٌ في الخلفيّة للممثلة جيسي بوكلاي كنوعٍ من محاورةٍ ذاتيّةِ تقول فيها إنه «أحياناً ما تكون الفكرة أقرب إلى الحقيقة، أقرب إلى الواقع منها إلى الفعل، يمكنك أن تقول أيَّ شيءٍ، وأن تفعل أيّ شيءٍ، لكن لا يمكنك تصنُّع فكرة...». إذا ما حاولنا أن نتأمّل في هذه الجملة وقمنا بإسقاطها مثلما كان يفعل الفيلسوف توماس نايجل مع طلابه حين كان يطلب منهم على سبيل النصح أن يتخيّلوا أنفسهم خفافيشَ بحيث إن التمتّع بمزية تقمّص كائنٍ آخر وامتلاك منظوره للعالم، سمةٌ تفصح عن حقيقة أن يكون المرء عارفاً واعياً بحقّ.
بإمكان لعبة نايجل أن تكون نصيحة أسطورية بلا شكّ على أساس أن للخيال قدرة على تطبيع المجاز. إن فكرة تقمّص وعي آخر بهدف فهم منظوره للعالم هي فكرة أقرب للحقيقة منها إلى الفعل، فما الليل مثلاً بالنسبة إلى الخفّاش والقمر والإنسان القديم؟ ستكون الإجابة مفتوحة على الاحتمالات، وخاضعة لوعي كل من يفكر بالسؤال. أن تكون خفّاشاً هو أن يكون الكهفُ سجنَك الإراديّ وخلاصَك الوحيد في النهار ومنه، بينما الليلُ يصبو أن يكون أفقَك الطلق، المفتوح على المستحيل حيث تملأ وجودك بما تشاء، ولك الحرية لكي تكون ما تريد أن تكونه، عندها يمكنك أن تكون خفّاشاً إذا ما أردت.
والكهف في الحالة هذه، هو أيضاً استعارة، وشأنها شأن الليل والخفّاش. هو ليس كهفاً مادّياً تدخله فتلوذ به، إنّه فكرة، وقارٌ ما، ميلٌ مفضوح يبغي الوحدة والانعزال والتفكّر. فأنْ تكون خفّاشاً هو أن تكون لك معرفة خاصة بالليل، ولكي تتميّز بهذه المعرفة، فأنت بحاجة أن ترى الليل كخلاصة سائلة لا تنفك تتجدد كموج ليل امرئ القيس. ولذلك لم يكن عبثاً أبداً أن يشبّه هايدغر الفلسفة بطائر «المينرفا» (الخفاش) الذي لا يحلّق إلا في المساء. إن التشبيه هنا عميقٌ جدّاً، وتتجلّى جدّية وعمق الليل في هذه الحالة باعتباره القادر على إنتاج خلاصات غير يقينيّة، إذ يكمن المقصد من هذا التشبيه المفعم بالتجربة: أن الفلسفة لا تأتي إلا لاحقةً لنهارٍ كاملٍ من البحث والعمل... فلا بد من وجود معرفةٍ عامّيةٍ ودينيّةٍ وعلميّةٍ وفلسفيةٍ... لكي يحلّقَ العقلُ الفلسفيُّ ويخرجَ من كهفه، وحقّاً، فما حاجةُ الكهف إلى طائر «المينرفا» في الليل؟
تحيلُنا استعارة الكهف تلقائياً إلى أسطورة الكهف عند أفلاطون. تشكّل تلك الأسطورة الحجرَ الأساسَ لفلسفة أفلاطون، وما يعنينا منها هو وظيفتها في تقريب الفكرة، فهي تساعدنا من حيث المقاربة على بناء أسطورتنا من منظورنا الخاص. فإذا كان الكهفُ يرمزُ إلى الجهل والمعرفة الناقصة عند أفلاطون، فإنّ النهار من وجهة نظرنا هو رمزٌ له. سأشرح: تقوم الأسطورة الأفلاطونية على تصوّر طائفة من الناس تعيش مقيّدةً منذ نعومة أظفارها في كهف لا يدخله النور إلا من جهة واحدة تقع خلفها، الأمر الذي يخلق انعكاساً لكل ما يحصل ويجري خارج الكهف، ولأن هؤلاء الناس مقيّدون بسلاسل في أعناقهم وأرجلهم، ما يجعل الالتفات أمراً مستعصياً عليهم، فهم يظنّون أن كل الظلال المنعكسة أمامهم حقائقَ أكيدة ونهائية، وبالتالي فهم لن يقووا على رؤية الأشياء الحقيقية إلا إذا خرجوا من الكهف. على هذا النحو، يشكّل النهار بالنسبة إلينا معرفة نسبية ناقصة لأنه يُقيّد الناس بسلاسل الانشغال بالحياة العملية بعيداً عن التبصّر والتأمّل والقدرة على الانفكاك عن الجهل، ولا يمكن لهم أن يتحرّروا من سلاسل وأصفاد النهار إلا عندما يحلّ الليل. ومعنى ذلك أن تلك الظلالَ التي تنعكسُ فوق جدران الكهف، بحسب أفلاطون، هي معرفة مختلّة، زائفة، تكبل الذات وتمنعها عن الوصول إلى الحقيقة، لكنّها في «أسطورتنا» نحن، إنما هي محاكاةٌ لوجود «الرؤية القاصرة» التي تحيط بالإنسان في النهار.
ومن وجهة نظر الرسوم المتحرّكة كسلسلة باتمان على سبيستون مثلاً نستشفُّ بنظرة طفولية كيف أن الرجل الخفّاش لا يقضي على الأشرار إلا حينما يحلّ الليل. وعليه فالدخول في الليل هو الخروج من الكهف.
في إحدى الحلقات من السلسلة الكرتونية للرجل الخفّاش، دار حوارٌ قصيرٌ بين مفوّض شرطة مدينة «غوثم»، وباتمان، انتهى بأنْ أجابه هذا الأخير: «أنا لا أعمل إلا في الليل». وهذه مفارقةٌ عظيمةٌ يمكن ملاحظتها إذا ما اتبعنا السلوك الثقافي الذي يحيلنا إلى فهم جوهر النهار باعتباره «معاشاً»، وتوقيتاً للعمل والإنتاج في الذهنيّة الجماعية، في مقابل الليلِ الذي يدقُّ ساعاتِ السُّبات ليفترشَ الزمان. تبدو جملة باتمان «أنا لا أعمل إلا في الليل» بديهية من حيث النظر إلى وظيفة الخفّاش، لكنها، في تأويلنا، تغدو خروجاً عن المألوف وانحيازاً إلى السبات. ولهذا الخروج ضرورة حقّة، فالليل، كعجينة سوداء، مسار مناقض للسرديات السائدة التي تولي الحواس أولوية على ما عداها من الشروط الأخرى الممكنة للمعرفة. وقد يخيّم على الليل الهدوء والخشوع، ولكن خلف هذا الهدوء، وبين سطور ظواهره الساكنة، هو يخرجُ علينا سابراً لأغوار سواده، مانحاً لمؤنسيه الساهرين لأجله، حالةً معرفيةً ووجدانيةً لا تتوفّر خلال النهار. ألم يكن الفارابي ميّالاً إلى العزلة والتأمّل والسهر في الليل للتأليف والمطالعة؟ وفي خضمّ هذه المقاربة يحقّ لنا أنْ نسأل عن معنى الزهرة على الشجرة؟ إنها ليست شكلاً ولوناً وأريجاً كما تبدو للعين والأنف، بل تَفَتُّح برعمٍ، وإعداد ثمرةٍ في نظر الحياةِ، وكذلك الليل، ليس ستارةً تسدلُها يدُ المخيّلة ولا سهراً باهتاً أو لوناً مكثّفاً للسواد كما يبدو للعين، بل إنّه اختراقٌ للحواس. على هذا المستوى يستطيع أيُّ كائنٍ ليليّ خبرَ كينونة الليل أن يقول مرتاحَ الضمير: «أنا لا أعملُ إلا في الليل».
لذلك فإخراج الليل من الوصمة المقرونة به بوصفه عدماً وموتاً هو ضرورة تجد أهمّيتها فيما يبعثه الليل في نفوس من يختبرونه. يمكن فهم هذه الضرورة من جوانب عدّة، فمن يقرأْ رواية «الأم» للروائي الروسي مكسيم غوركي يرى كيف يمكن أن تعود البطولة ليلاً في صيغتها المثلى، كيف يدبّر الساهرون لثورتهم وحرّيتهم. يمكننا كذلك رصد تلك الأهمية في رواية «أكاذيب الليل» للروائي جزوالدو بوفالينو. يظهر الليل في هذه الرواية كمنفّسٍ أخيرٍ للبوح والسرد، ولو جاء هذا البوح وهذا السرد كاذبيْن، ذلك أن الليل مهتمٌّ بالبحث عن حقيقته، ومعنيٌّ بالبحث عن معناه في نفوس من يقيمونه. فإن كان قادراً على منح المساجين المحكوم عليهم بالإعدام فجراً خلاصَهم المؤقّت وحريةَ الكلام والأمنيات السعيدة، فهو بذلك ليلٌ جدير بأن يُغنّى له «هذه ليلتي» بلسان أم كلثوم.
جميلٌ أن يتّخذَ الليل شكلَ البرزخ الوجوديّ، بل العتبة التي يبدأ عندها الإنسان تأرجُحَه بين أنْ يعود جنيناً للحظةٍ، وبين أن يكون وليداً للأبد. يستند هذا المجاز على مقولة فلسفية تفترض أنّ الإنسان عبارة عن جسد وروح، إذ تشكّل لنا هذه الفرضية مدخلاً يمكن على أساسه أنْ نولي لكلّ جانب من الإنسان زمانَه الذي به يتجلّى ومن خلاله ينشط. فإذا كان النهار عالم الشكل، عالم المرئي والمسموع فهو عالم المادّة والبدن، فما الدنيا إلا مسرح للعيون والأسماع والجسد، متى ما اتّخذتْ زمانَها تفصل كائنَها عن عزلتِه وهدوئه، تماماً كفصل الجنينِ عن مكانه الأول لحظة الولادة. وما فهمُ الولادة فلسفياً إلا اللحظة الأولى التي يبدأ عندها إدراكُنا الحسّي، فلا غرابة أن يصبح النهار حينها سوى عملية اغتراب أبدية. أما الليل، فهو عالم الروح والتأمّل، فيه تصفو وتعشق وتسكن وتفكّر وتتخيّل، وقد تمزّق كلّ أوراق التين من أجل أن تكتب. فالليلُ عملية ارتداد مبتغاة، محاولة مستمرّة في إيجاد المعنى، حنينٌ أول إلى عالم خفيفٍ، يشبه عالم الجنين، متى ما زارَ كائنَه يأمن.
ليس المبتغى من الليل أن تتملّك الحقائق، بل هو أشبه بالنهايات المفتوحة، هو عجينة سوداء مرهونة لعاجنها، المبتغى منه أن تفهمَه كحالة مكثفة، متجدّدة، تملأ خواء الذات وتكملها. هو حالة تعطيك ما تطلبه بانسيابيةٍ كانسياب نهر هيراقليطس. فلكلٍّ منّا ليلُه الخاصّ. ليلٌ له معنى تحدّده ذاته ويرسم صورتَه العقلُ، إنّه العقلُ الليليّ الذي تحدث عنه سيوران: «فالعقول نوعان، نهاريّة وليليّة، إنّهما لا يملكان النهج نفسه، ولا الإيتيقيا نفسها. ففي وضح النهار نحن نراقبُ أنفسنا، وفي الظلمة ننكشفُ على أنفسنا ونقول كلّ شيء. الشخص الذي يتساءل بينما الآخرون يغطّون في النوم لا تهمّه التبعات الإيجابية أو السلبية لما يفكّر فيه، من ثَمَّ هو يجترُّ حسرته على أنّه وُلِدَ من دون أنْ يهتمّ بما يمكن أنْ يُسيءَ به إلى الآخرين أو إلى نفسه. بعد منتصف الليل يبدأُ سُكْرُ الحقائق الماكرة...».