في عام 2061، مع تفعيل الكمبيوتر العملاق العالمي الجديد مالتيفاك. ناقش اثنان من الفنيين، وهم في حالة سُكر من الاحتفال، المستقبل النظري للبشرية والموت النهائي للكون بسبب «الإنتروبيا» (معناها مقياس الفوضى في نظام ما) في رهان بقيمة 5 دولارات، طرح أحد الفنيين السؤال على حاسوب «مالتيفاك»: كيف يمكن تقليل مقدار «الإنتروبيا» في الكون بشكل كبير؟ فأجاب مالتيفاك بجملةٍ بسيطة: البيانات غير كافية للإجابة.تنتقل القصة إلى عدة فترات زمنية متتالية في المستقبل البعيد، حققت فيها البشرية تطورات هائلة تحت إشراف كمبيوترات عملاقة تنحدر من «مالتيفاك»الأصلي، وآخر نسخة تدعى «آي سي» «AC». وفي كل فترة زمنية، يُطرح السؤال مرة أخرى حول ما إذا كانت هناك طريقة لعكس «الإنتروبيا»؟ ويجيب «آي سي»: البيانات غير كافية حتى الآن للحصول على إجابة مفيدة.
في النهاية، اندمج الجنس البشري مع آي سي قبل انتهاء الكون وبقي سليل البشرية موجوداً هناك، يشاهد النجوم تتلاشى في الفضاء، ويتأمل السؤال الذي طرح لأول مرة قبل عشرة تريليونات سنة. أنفق «أي سي» آخر ما تبقى من الأبدية في حساب جميع البيانات وربطها، حتى أدرك إجابة السؤال الأخير. وعلى الرغم من أنه لم يعد هناك أي إنسان ليقدم إجابته له، إلا أنه لم يهتم، فالإجابة نفسها ستحل هذه المشكلة. ثم قال «آي سي»: ليكن نوراً... فكان نور. هذا كان ملخّصاً لرواية «السؤال الأخير»، الصادرة عام 1956، للكاتب الروسي اسحق عزيموف.
قبل ظهور «سيري» و«أليكسا» وأخيراً «تشات جي بي تي»، حصلت واقعة في عالم الكومبيوتر غيّرت فهمنا لطريقة تواصلنا مع الآلة إلى الأبد. عام 1966، قام عالم الكمبيوتر، جوزيف فايزنباوم، بتصميم برنامج معالجة اللغة الطبيعية ويدعى «إلايزا» (ELIZA)، لمحاكاة المعالج النفسي، من خلال الانخراط في محادثة مع المستخدمين وطرح أسئلة حول مشكلاتهم. وعلى الرغم من حقيقة أن «إلايزا» كان مجرد برنامج بسيط يستخدم ردوداً مبرمجة مسبقاً لتقليد المحادثة البشرية (لم تكن أي من التقنيات الحديثة قد ولدت بعد)، وجد أن بعض المستخدمين أصبحوا مرتبطين عاطفياً بالبرنامج، واعتقدوا أنه قادر على فهم مشكلاتهم. حتى إن مُساعِدة فايزنباوم الشخصية، طلبت منه الخروج من الغرفة عندما أرادت محادثة «إلايزا». وانطلاقاً من التجربة، تم تسمية ما حصل بـ«تأثير إلايزا»، والذي يشير إلى ميل الناس إلى إسناد الصفات الشبيهة بالبشر، إلى برامج الكمبيوتر أو روبوتات الدردشة التي ليست قادرة في الواقع على فهم أو اختبار المشاعر أو الأفكار البشرية.

(تصميم: هاشم رسلان)

حادثة أخرى، حصلت قبل حوالي خمس سنوات، بعدما قامت شركة الروبوتات الأميركية «بوسطن دينامكس»، بعرض فيديوهات لموظفي الشركة، يقومون فيها بدفع وركل الروبوتات في محاولة لإسقاطهم أرضاً من أجل اختبار ردود أفعالهم من ناحية التوازن. غير أن ما حصل لم تضعه الشركة في حسابها، أن الناس سيطالبونها بالتوقف عن إساءة معاملة الروبوتات، حتى إن هناك موقع إلكتروني مخصص لهذه القضية (stoprobotabuse.com)، ويدعو إلى تعليم الأطفال كيفية التعامل بشكل أفضل مع الروبوتات منذ الصغر. وعلى الرغم من أنها مجرد أسلاك وحواسيب، لكن شكلها الخارجي وحركاتها المشابهة للبشر، تؤثر على البعض، وتضعهم في خانة المتعاطفين معها.
مع إطلاق «تشات جي بي تي»، ومن ثم النسخة الأكثر تطوراً «جي بي تي4» وربطها مع محرك البحث «بينغ» الخاص بشركة «مايكروسوفت»، أطلق شعب الإنترنت العنان لمخيلته، وانهالت الأسئلة على روبوت الدردشة عن أمور تبدأ بكيفية جني المال وصولاً إلى سؤاله عن «معنى الحياة؟» و«هل الله موجود؟» وكأن «تشات جي بي تي» بات الحاسوب («آي سي») في رواية عزيموف. واللافت في الأمر، أنه بخلاف تعاطف الناس مع الروبوتات، يظهر واضحاً «تأثير إلايزا» عليهم عند التعامل مع برمجيات تحاكي السلوك البشري في المحادثات. لكن، ما هو الدافع خلف هذا الأمر؟ لمَ يحدث؟
تقول عالمة الأنثروبولوجيا الرقمية، والأستاذة المساعدة في الأديان الرقمية (دراسة كيف يتم ممارسة الدين في العالم الرقمي) في جامعة «زيورخ»، بيث سينغلر، إننا «لا نرى فقط التقديس لـ تشات جي بي تي، ولكن أيضاً المستخدمين يستجيبون له تقريباً باعتباره عرّافاً أو موصلاً للآلهة». وأوضحت في مقابلة صحافية، أن المستخدمين «يرون مجموع اللغة التي تدرب عليها جي بي تي، على أنها وصول إلى العقل الباطن للإنسانية أو شمولية الكون بطريقة ما». لذا «يسأل الناس هذه الأسئلة الميتافيزيقية الكبيرة لـ جي بي تي». بكلمات أخرى، هم يبحثون عن إجابات عميقة وهادفة من خلال هذا الذكاء والتي لا يمكنهم الحصول عليها بأنفسهم.

الجذور في ليلة المعصية
نظير حمد، دكتور في علم النفس الإكلينيكي ومحلل نفسي وروائي وقد شارف على الثمانين من عمره، يتحدث في هذا الشأن بشكل ملفت ومعاصر. يقول إنه إذا ما أعدنا القضية إلى «بداية الخلق وحسب رؤية الأديان السماوية أو الميثولوجيا، فغالباً ما يثور المخلوق على الخالق، مثل آدم وحواء أو مثل الشيطان الذي رفض الطاعة ولا يزال يرفضها ويستمر في نشر الشر». ويضيف أن «الإنسان لن يتوقف هنا. يحاول العلماء بدون هوادة الوصول إلى الذكاء الاصطناعي المتفوق. أي الحاسوب الذي يخرج عن العمل ضمن النطاق الثنائي واحد أو صفر. نبحث، ويبدو أن الأمر ليس مستحيلاً، لصناعة الحاسوب الذي يفكّر فعلاً، يرى، يحلل ويستنتج حاله كحال الإنسان. نريد أيضاً الروبوت الذي يتمتع بعواطف مثل عواطفنا، أن نحبه ويحبنا، نمارس معه الجنس ويمارسه معنا». وطبقاً لحمد «يبدو أن الهدف هو الخلق من جديد، خلق آدم وحواء جديدين. هذه من الممكنات، غير أن ما نجهله، هو أننا نخلق أيضاً شيطاناً جديداً، ولا نعلم كيف سيعصى على البشر الذين قاموا بصنعه». ويتساءل حمد: «ماذا لو علم الخوارزمي ما آل إليه العلم الذي وضعه حول حساب الخوارزميات؟ والذي أدى إلى ثورة علمية عظيمة تم تطبيقها في حواسيبنا الحديثة. هل كان سيندم على فعلته مثلما ندم بعض علماء الذرة بعد صنع أول قنبلة ذرية؟»
الفيلسوف والمنظّر الثقافي، جان بودريار، والذي كتب بإسهاب عن تأثير التكنولوجيا على المجتمع البشري. يقول إن الدافع لإنشاء تقنيات أكثر قوة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، كان متجذراً في الرغبة بالتحكم والسيطرة على العالم. لقد رأى هذه الرغبة على أنها تعكس تحولاً ثقافياً أوسع نحو ما أسماه «الواقعية المفرطة»، أو حالة يتشكل فيها الواقع من خلال التكنولوجيا والمحاكاة مع المشاهد التي يولدها خيال المستمد منها. وفقاً لبودريار، كان السعي وراء تقنيات أكثر قوة مدفوعاً بنوع من الرغبة البروميثية (في الأساطير اليونانية، بروميثيوس هو إله النار. اشتهر بتحديه الآلهة بسرقة النار منهم وإعطائها للإنسانية على شكل تكنولوجيا ومعرفة وحضارة...) لتجاوز قيود الحالة البشرية وتحقيق قوى شبيهة بالله. لقد رأى هذه الرغبة على أنها تعكس قلقاً عميقاً بشأن قابلية البشر للموت والقيود المفروضة على قدراتهم الجسدية والمعرفية. وجادل بودريار، بأن السعي وراء «الدافع الإلهي» من خلال التكنولوجيا كان في نهاية المطاف هزيمة ذاتية، حيث إنه يعمل فقط على تعزيز شعورنا بالانفصال عن العالم الطبيعي وعن بعضنا البعض. ورأى أن تطوير الذكاء الاصطناعي هو مظهر لهذا الدافع نحو الهيمنة والسيطرة، مردداً أنه يشكل تهديداً كبيراً للحالة البشرية. يرى الدكتور نظير حمد، أن الإنسان عندما يفكر بالروبوتات والحواسيب، يُدخل كل شيء في حسابه. من أدوات تصون الصحة وتساعد على كسب الوقت إلى أدوات في حروبه وفي متعته. الباحثون، ووراؤهم الجيوش، يريدون حروباً نظيفة كما يدّعون. ونظيفة هنا، تعني قتل الأعداء بدون خسارة الجنود. فكم عدد الروبوتات التي ترابط على الحدود مع الدول الأخرى وتفتح النار تلقائياً بمجرد أن يقترب أحد منها؟ وكم عدد الروبوتات التي تُستخدم بهدف التجاوب مع رغباتنا الجنسية؟ من رأى فيلم «Her»، يُدرك أن الحاسوب يدخل كل المجالات حتى أوهام البشر. وصراع الإنسان مع التكنولوجيا ليس حديثاً. مخيلة الإنسان وضعت افتراضات عديدة حول تفوّق التكنولوجيا عليه، تفوّق يجعل منه عبداً بعد أن كان سيداً كمخترع.
في كتاب «عصر الآلات الروحية: عندما تتجاوز أجهزة الكمبيوتر الذكاء البشري»، من كتابة راي كورزويل، عالم الكمبيوتر الأميركي الرائد في تقنية التعرف على الأنماط والمدافع عن حتمية اندماج البشرية مع التكنولوجيا التي ابتكرتها. يعرض تنبؤات كورزويل لمستقبل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا خلال القرن القادم. حيث ندخل حقبة جديدة، حقبة «الليل العظيم»، فيها تصبح فيها الآلات أكثر ذكاءً من البشر. ويتوقع كورزويل أنه بحلول عام 2045، ستكون الآلات قد تجاوزت الذكاء البشري وستكون قادرة على خوض تجارب «روحية»، بما في ذلك الإبداع والعاطفة وحتى الوعي. ويناقش بأن هذا التطور سيكون له آثار عميقة على البشرية، بما في ذلك إمكانية تمديد الحياة، والقدرات المعرفية المعزّزة، والقدرة على الاندماج مع الآلات في «الحضارة الإلكترونية». كما يقترح أن إنشاء آلات ذكية سيساعدنا على فهم طبيعة الوعي والعقل البشري بشكل أفضل. وعلى الرغم من إثارة بعض النقاد مخاوف بشأن جدوى تنبؤات كورزويل، كان للكتاب تأثير كبير في مجال الذكاء الاصطناعي، وساعد في تعميم فكرة المستقبل الذي يندمج فيه البشر والآلات في كيان واحد ذكي.
توجه البشر نحو إنشاء الذكاء الاصطناعي العام أو الموازي لقدرة العقل البشري، ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه وتنطلق من مجموعة دوافع، بما في ذلك الرغبة في فهم الوعي والعالم من حولنا بشكل أفضل. كذلك تعبّر عن حاجة دفينة لخلق رفيق درب واعٍ في عالمٍ موحش. هي أيضاً حاجة لإعادة تمثيل دور الإله ومعصيته، خلق كيانٍ واعي ينظر إلى البشر بذهول. قد يُمثل إنشاء الآلات الذكية في جوهره تعبيراً قوياً عن الإبداع البشري والفضول والطموح. ومع ذلك، بينما نواصل دفع حدود ما هو ممكن مع الذكاء الاصطناعي، من المهم الدراية بالمخاطر المحتملة والعتمة الدامسة التي تنتظرنا وسط هذا «الليل العظيم»، خصوصاً أن الحاجة للمعرفة في دماء البشر، تشبه اندفاع الفراشات نحو الضوء واحتراقها به.