إن عصب الوجوديّة الرئيسي هو أنها فلسفة تحيا الوجود ولا تقتصر على التفكير فيه. أما أول ملامحها فقد اكتسبته على يد الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد في القرن التاسع عشر. تتلخّص الوجودية في أنّ وجود الإنسان هو ما يفعله، وأن أفعاله هي التي تحدّد وجوده وتكوّنه، لذلك يُقاس بها. وقد أوضحها الفيلسوف الفرنسي وأحد أبرز وجوهها جان بول سارتر، بجملةٍ تمّ التطرق إلى فحواها من قبل الفلاسفة الوجوديين مثل الألماني هايدغر، ولو أنه لم يضعها مباشرةً، تفضي إلى أن: الوجود يسبق الماهية. والماهية هنا هي تلك الطبيعة الأساسية التي تميّز جوهر أي شيء ولا يُعرَف إلا بها. يميّز سارتر الإنسان عن سائر الكائنات بأنه لا يملك طبيعة جوهرية ثابتة تتشكّل على أساسها حياته ووجوده، بل إنه يوجد أولاً، فيما تتخذ حياته طابعاً معيناً ويظل يكتسب صفاته المميزة من خلال أفعاله والطريق التي اختارها لحياته. يشرح سارتر الأمر على النحو التالي في كتابه «الوجودية مذهب إنساني»: «إنّ الإنسان يوجد أولاً ويواجه ذاته، ويُقذف به في العالم ثمّ يعرف نفسه فيما بعد، والسبب الذي يجعل الإنسان - في نظر الفيلسوف الوجودي - غير قابل للتعريف هو أنه في البدء لا يكون شيئاً، ولن يصبح شيئاً إلا في ما بعد، وعندئذ سيكون ما صنعه بذاته».والإنسان عند سارتر مشروع بحياة ذاتية، بدلاً من أن يكون شيئاً كالطحلب. ما يعني أنه: هو فاعل، ذو جدوى، له فاعليته وإرادته ورغباته واختياراته، غير أنه لا يختار لنفسه فقط، بل في اختياره لنفسه يختار لكل الناس، إذ «لا عمل من أعمالنا في خلقه لما نريد أن نكونه، إلا ويساهم أيضاً في خلق صورة الإنسان كما نتصوره، وكما نظن أنه يجب أن يكون».

الوجودية (فرنسوا الدويهي)

في العصر الرقمي اليوم، حيث الوجود غالباً بات يعادل الوجود في الخوارزميات، يمكن تطبيق الوجودية بوصفها مذهباً افتراضياً. يلخّص الكاتب الفلسطيني رائد وحش ذلك في عنوان مقالته «أنا أونلاين، إذاً أنا موجود» المنشورة السنة الفائتة. فلنبدأ من كلمة «موجود». إن استخدامها في العنوان يحمل خطورة تكمن في كونها تركّز على الأبعاد النابضة بالحياة في الإنسان، أما اختصارها بوجود الإنسان في العالم الافتراضي فينبذ إمكانية وجوده في صميم الحياة الحقيقية أو الواقعية.
إذا قارنّا الأمر بالمقولة الديكارتية «أنا أفكر، إذاً أنا موجود» من حيث إن الماهية تسبق الوجود، فإنّ فعل الوجود في العالم الافتراضي هو الذي يحدّد وجود الذات الإنسانية. أو بشرح مقولة ديكارت نفسها: فالفكر - أو عمليته - هو الذي يثبت وجود الإنسان، أي أنه انتقال من الفكر إلى الوجود. كذلك، فإن تناول الوجود في العالم الافتراضي كفعل لتسجيل الدخول، أو كفعل تواجد أو فعل ظهور، يفضي بنا إلى إثبات وجود الذات في العوالم الرقمية: فعل الظهور متصلاً في الخوارزميات هو الذي يثبت وجود الإنسان برمّته اليوم.
على الطرف الآخر، إذا اعتمدنا مقولة الوجوديين من حيث إن الوجود يسبق الماهية، فإنّ الوجود المجرّد في العالم الافتراضي هو الذي يحدّد ماهية الإنسان وجوهره، أي أنّنا سنشكّل الصورة التي سنكون عليها أثناء عملية وجودنا، وهذه الصورة لن تكون واقعنا نحن فقط، بل ستكون أيضاً واقع كل الناس المحيطين بنا، لأننا كما أسلفنا: بخلقنا لصورتنا نخلق صورة الإنسان كما نريد أن نتصوّره، وكما نظن أنه يجب أن يكون.
هكذا لا فكاك من الوجود في العالم الافتراضي، حيث هو الذات وفيه يتلخّص وجودها، وإن وُجِدَت فيه فقد وُجِدَت في ذاتها وحقّقت إمكاناتها. نتّفق على أن الحجر المُلقى في الطريق أو الجبل الراسخ في مكانه موجودان، وأن الإنسان الحي أيضاً موجود. لكن بالنسبة إلى الأشياء فإن كلّ وجودها يُستهلك في تلك الصفات التي تكون عليها في أيّ لحظة معينة، أما الإنسان فلا يمكن أن تستنفد جميع أبعاده في أيّ لحظة بعينها، ولا يمكن أن تحدّد سماته كلها من خلال مجموعة من الأوصاف الجاهزة المُعدّة سلفاً، لأنّ الإنسان هو قبل أي شيء «مشروع، يتّجه نحو المستقبل ويستهدف تحقيق غايات يرسمها مقدّماً، وهذا الاتجاه الدائم نحو ما لم يتحقق بعد هو سمة أساسية تميّز وجوده، وتميّز بينه وبين وجود الأشياء، فوجود الإنسان غير مكتمل، وعدم اكتماله هذا صفة إيجابية وليس مظهر نقص». لهذا لا يمكننا في حديثنا عن الإنسان، أن نصف وجوده كما نصف وجود الأشياء. لكننا اليوم، في العالم الرقمي، فقدنا هذه الميزة، حيث صار الوجود، بمفهومه العام عند الغالبية، يتلخّص في الوجود عبر المواقع، وفيها تتحقق الإمكانات. صار وجود الإنسان يعادل وجود أشياء: يستهلك وجوده كلّه في الصفة التي يكون عليها في العالم الرقمي، والصفة هنا هي: متّصل، أونلاين. لم تعد أبعاده مهمّة، ما يهم فقط هو هذه الصفة: «متّصل». وفي ذلك تُحصَر كلّ صفاته أثناء لحظة اتّصاله الآنية.
لقد طغى الجمود وبلادة الحياة اليومية الزائفة، فلم نعد نرى هذا «الشروع» إلى المستقبل، بل تمّ استنفاد كل شيء في الحاضر، حتى صار يبدو وجود الإنسان «أونلاين» مكتملاً، أي: كأنه صار كالحجر الذي نقول إنه موجود، وقد اكتسب كل صفاته، ويستحيل أن يغيّر فيها شيئاً.

يحاول الإنسان البقاء لأطول فترة ممكنة مرئياً في العالم الرقمي، كي لا يسقط في النسيان من قِبَل الآخرين، وكي يتحاشى هذا السقوط، فإنه يختار سقوطاً ثانياً كما عناه هايدغر في «الوجود والزمان». والسقوط هنا يكون «مع الناس»، وهو ضروري لأن لا سبيل إلى التخلص منهم، ولا وسيلة للفعل إلا في إطار - الوجود مع - الناس. بهذا، فإنّ الذات في هذا الوجود الزائف تفقد وجودها الحق، على أنها تلجأ إلى الزائف فراراً من الوجود الحقيقي، أما في العالم الرقمي، فيمكن القول إنها تلجأ إلى الزيف فراراً من العالم الواقعي الذي صار هشاً، وهامشاً على متن الافتراضي.
تخوض الذات سقوطاً إذاً، فلا تفكر إلا كما يفكر الغير (الناس)، ولا تفعل ولا تشعر إلا كما يفعلون ويشعرون. هذا الوجود - مع، من شأنه أن يزيّف الوجود الحق لأنه ينزل به إلى حياة زائفة مبتذلة يومية، كَونها متشابهة. وبالجملة، تصبح الذات نسخة من كائن بلا اسم هو الناس، ويقضي الفرد على فردانيته وذاتيته وشخصيته وأصالته، ويصبح مجرد شيء بين أشياء، وموضوعاً ضمن مواضيع، وأداة وسط أدوات، وفي هذا إهدار كامل لحقيقة الإنسان.
سيحدّد «الوجود أونلاين» جوهر الإنسان وماهيته، ولا يعدو هذا الجوهر في العصر الرقمي أكثر من كونه حصيلة ردّات فعل الغير (الناس). سوف تُصنَع الذات إذاًن نتيجة انفعالات الغير، فتفقد حرية صنع ذاتها، لتصير مقولة سارتر: «الآخر هو الجحيم» صالحة تماماً في العالم الرقمي. وبالطبع ليست هذه مقولة إنسانية عامة، ذلك أنه لا مهرب من أن يعيش - يسقط - الإنسان مع الآخرين، إذ إن الوجودية ذات بُعد اجتماعي لا يمكن إنكاره، ولكن في العالم الرقمي يصير الوجود «من أجل الآخرين»، لا معهم فحسب. يحاول كل فرد أن يُسقِط ذاتيته كموضوعية على الغير، أي: أن يعمّم ذاتيته، لتصير نمطاً. كما أنّ الصراع الذي تناوله سارتر في أعماله الفلسفية والمسرحية يحضر أيضاً في العالم الرقمي، في نوعٍ من الاستلاب، حيث يصير الفرد مُستلَبَ الإرادة والحرية والذاتية، كي يحقق ما يتوقّع الناس منه، وليظهر بالصورة التي يرضون عنها، فيضعونه في سياق ضيّق، قد يكون لا يريده، ولا يحبّذ اختياره، لكنه يجد نفسه مجبراً عليه خوفاً من السقوط في النسيان من قِبَلهم، فيختار السقوط مع - الناس، وبذلك يصير الآخرون جحيمه.
من الممكن أن يفقد الإنسان وجوده - عن طريق الانتحار - نتيجة ردّات فعل تصدر بحقه عبر منصات التواصل، وإن من خلال منشور عنصري كما يقول رائد وحش، ما سيثير الجدل أكثر من العنصرية نفسها التي تحكم العالم الحقيقي.
سيحاول الفرد أن «يفلتر» صورته لأطول فترة ممكنة، فاقداً حريته وإمكانات اختياره، كي يبقى في الحياة الافتراضية المرعبة، وذلك ما ينفي وجوديته نفسها، أو وجوده كذات إنسانية بحسب الفلسفة الوجودية، فيصير نسخة ضمن نسخة، ويتم وضعه في سياق معين، وتتحول الذاتية إلى موضوعية، فلا تنتهي النسخ.