يصل طالب المجيء إلى العيادة النفسية مثقلاً بكيس يحمله على ظهره، يرميه في وجهنا. باحترام كلّي نتلقّف كيس الهمْ ونضعه قربنا، دون أن ننساه لحظة واحدة. نطرح عليه سؤالاً بسيطاً جداً: من أنت؟ ليعرّف عن نفسه وأهله وعملهم، أخوته، دراسته، مدارسه، معلّميه، عمله ومنطقته...ألخ.تكفي هذه الأسئلة كي يندلق كلام كثير. هنا الكلام عن الواقع لا تعليق عليه، لأنّ عيادة التحليل النفسي تعمل مع اللاوعي، أي ما غاب عن الوعي والإدراك، لكنه يبقى حياً وفاعلاً ويتمظهر بأشكال شتى نعرفها ونجعلها مادة الحديث. تبدأ التعليقات عندما يتحدّث كيف يرى هو الواقع المعاش، وكيف يتعامل معه، وكيف توقّف عن معرفة إدارة الواقع والعلاقات. على وجه التحديد، كل ما يتعلق بالأهل والأخوة والصداقة والحب والجنس الآخر والمتعة. يفسح الحديث عن الأهل والأقارب والجيران والانتماء والهوية، مكاناً واسعاً لكل الناس الذين التقاهم وتركوا في نفسه أسئلة غير مُصاغة.

«بعد الظهر» لآية أبو هوّاش (أكريليك على كانفاس _ 2021)

بينه وبين الأم والأب، تُطرح مسائل التأثير والمقدرة والترك والتخلي. من نوع رائحة الأم أو نظرة الأب مثلاً... يروح الحديث أكثر فأكثر في هواماته ومناماته والسيناريوهات التي ألّفها وذكريات الطفولة وأوّل... ووو ونظرة الجنس الآخر له، والمعارك التي خاضها، وطموحاته ومشاريعه ومستقبله.
يكاد الكيس أن يفرغ، تقفز أسئلة عن دوره هو في إدارة تلك العلاقات التي تشغل باله، ويكتشف أنّه كان فاعلاً، بل ويتمتع بالكثير من الأمور التي كان يظن أنه ضحيتها. مثال بسيط على ذلك: تأتي السيدة العصرية لتشكو من إنها فعلت كل شيء كي لا تعيش مثل أمها، فقد درست وتعلمت وتعمل، ولكن المشكلة عند الزوج الذي لا يُقدّر ما هي عليه. وفي متابعة ليوميّاتها مع الزوج ترى بنفسها أنها تكرّر ما عاشته أمها. لأنّ ما تنقله الأم لابنتها هو بالضبط كيفية عيشها لأنوثتها، وأنّ التحرّر هنا هو خطاب، وهي ليست عاجزة، لكن المؤنث ينحصر في الخطاب العام كون المرأة هي بنت وأخت وزوجة وأم لرجال، تحمل أسماءهم وتلوذ بحمايتهم. هي دور ووظيفة وليست كياناً مفرداً.
يأتي شاب ثلاثيني غاضب من أن أباه لا يراه رجلاً، ويكتشف أنه متعلّق بأمه ويتمثلها في نوباتها العصبية، ويتذكر لحظات التدريس، وكيف كان يبقيها بقربه وهو صغير من الساعة الرابعة بعد الظهر حتى العاشرة ليلاً ولا يحفظ الدرس.
هنا ملاحظة بسيطة: كان الخطاب، فيما مضى يلوم الأب، والأم هي قدس الأقداس. اليوم يتم طرح سؤال بسيط وصعب جداً: ماذا تريد الأم؟ ما هي رغبتها؟ كيف تمسك بالأولاد عندما لا تكون راضية عن شريكها! هل الرغبة بين الرجل والمرأة قائمة؟
المشوار داخل العيادة ليس سهلاً، وبالتالي نفهم لماذا يتجنّب الناس التحليل النفسي، ويفضّلون بدلاً من ذلك الذهاب إلى العلاجات السريعة. ولكن هل تُحَل الصعوبات اللاواعية التي سكنتنا منذ ما قبل مجيئنا إلى الدنيا؟!
نحن كائنات من كلام، اختزناه وشربناه مع الحليب والرضاعة والدمعة والقبلة. كيف نفهم العودة اليوم إلى الديار العتيقة من أديان ومذاهب لو لم يكن هذا الأمر مزروعاً في مكان ما فينا يسمى اللاوعي! كيف نفهم الرضوخ المدوي لو لم يكن موجوداً أصلاً!
آلية العلاج في التحليل النفسي هي الكلام. الكلام الآتي من لغة هي الثقافة بكل أوجهها. أليس كلام القرآن هو الإعجاز! وفي المسيحية الله هو الكلمة! مع فارق أنّ التحليل النفسي يعرف أنّ اللغة يمكن خرقها والجواب ليس مقفلاً. الإنسان هو كائن رغبة، والخطاب العام طوّر منذ البدء آلياته لتطويق رغبة البشر وأخذهم إلى التطبّع بما يريد. هنا يحضرني عنوان كتاب لفاطمة المرنيسي: «الجنس كهندسة اجتماعية». يتحدّث الزائر في العيادة ويروي ويروي. يتم الاستماع له ليس كونه مريضاً، بل ككائن متكلّم يبحث عن المعنى الخاص به. هو حامل لثقل يريد التخلص منه واجتياز الحواجز المعيقة. يتحدث عن نفسه ولنفسه في حضور المحلّل النفسي. تتم دعوة المحلّل للقيام بوظيفة تلقي الحب والكره عبر التحويل على شخصه. هو ليس أمّاً ولا أباً كي يُرشد وينصح، ويجب ألّا يقع في هذا المحظور. إنه آخر، يستمع ويؤوّل ويُشير. هنا ينتبه الزائر إلى أنه يقول الأساطير التي حاكها، والأغلب أنه تمتّع بها. حاكها هو نفسه وصارت خطابه.
هو وحده يجلس على الأريكة، وليس وحده في الجلسة، المحلّل وراءه وليس أمامه سوى الفراغ. يصير المحلل مرآة لصور جديدة تزيح ما استوى واستقر، هو ليس في قدر محتوم ونهائي، بل يجد الفرصة كي يتلمّس رغبة تعود إليه وليست مرصودة للغير والآخر.
في العيادة، في تلك الغرفة المرصودة له، يستحضر أسماء ووجوه، يُفرد لهم مكانهم، قد يشكرهم، وقد يقتلهم أو يميتهم. قد يعشق، وقد يحزن، وقد يغضب، وقد يطير كعصفور في فضاء لا حدود له! قد يقاوم التعرّف على نفسه، كلّما اقترب من النواة الممرضة، إلى درجة قد يُعادي فيها المحلّل. لكن، كل لحظة تحوّل تخضع للتأويل. كأن يقول: ليس لدي رغبة في المجيء، عندما لا يجد الجواب يقول مخاوفه في كشف ما يمنعه من ذلك.
كأن للمحلّل يدان تتّسعان لتلقيه عندما يقترب من هوّة يكاد يقع فيها.
هو ليس وحده على الأريكة.... ولكنه وحده أمام ما يرغب هو. هذا هو الأمر الصعب. نحن جميعاً محافظون ولا نرغب في فقد حب من كان حاملاً لنا في مشينا نحو النضج والرشد.
عيادة التحليل النفسي مكان مأهول، مصنوع من الكلمات، دار واسعة لتلمس ما يدل وما يقال.
كم نتفاجأ بإبداعات تبرز فجأة كأنها كانت مطوية نضرة ومنسية في سراديب وصناديق مقفلة بحديد صدئ.
هو الكلام، فيما مضى أقفل على الذات كينونتها، وأفرج فيما بعد عمّا كان مستتراً.

* محلّلة نفسية