«البارحة كانت تملؤه الحياة!» يصرخ البعض في دفنِ أحدهم. فيما أفكّر أنا «والآن قد مات. انتهى. صار من الماضي». الموت فكرة مجرّدة، مُطلقة، مُحرِّرَة. نصِرُّ كأحياء على إبقاءِ فكرة الموت حيّةً، فنقيمُ لها أماكنَ وطقوس. وعليه تنتصب ضمن جغرافيّةِ أيّ مقاطعةٍ أو إقليمٍ أو منطقة، مهما كانت صاخبةً أم هادئة، قطعٌ تحوي على ما تبقّى مِمَّن سبقنا. كانت جدّتي تقسم دائماً بعبارةِ «وحياة هالجسم يلي رح ياكله الدود يا ستّي». لطالما كرهتُ هذه العبارة التي تعدّ، رغم قساوتها، أكثرُ الحقائق رسوخاً. عندما ننتهي من رحلةِ الحياة سوف تأكُلُ الديدانُ أجسادنا. وما دُمنا كبشرٍ نملكُ الذاكرة والوسائل التي تُساعدُ على التذكّر، كالصور أو بعض الكتابات أو الذاكرة بحدّ ذاتها، لمَ نحن بحاجةٍ إذاً إلى أماكنٍ محدّدة ضمن إطارٍ جغرافيّ معيّن وطقوسٍ تاريخيّة لنبقى أوفياء لهذه الذكرى؟ عام 1930، كان عالم الأنثروبولوجيا والاجتماع الأميركي ويليم لويد وارنر قد طوّرَ نموذج البحث الأنثروبولوجي في كتاب Yankee city، عبر دراسته لمجتمع نيو إنغلاند في ماساتشوستس، حيث قضى مع فريقه من الباحثين حوالى عقد من الزمن لإجراء مقابلات واستطلاعات شاملة. تمّ اختيار هذا المجتمع تحديداً ليكون نموذجاً مصغّراً للمجتمع الأميركي. يفسّر الكتاب رمزية الحياة في المدينة، ويتضمّنَ قسماً عن مكانٍ لا يُذكر دائماً أو أبداً في توصيف الحياة في المدن – أو حتّى القرى – المقابر.

«المنسيّون» لجوني سمعان (أكريليك على كانفاس - 2019)

تأتي ضمن ضوضاء المدينة أو سكون القرى أماكن لا تُشبهُ سواها. يمكنُ تعريفها على أنّها مكانٌ «يوفّرُ» راحةً أو رعايةً كريمةً وأبديّة للساكنينَ ضمن أراضيها. راحةً لساكنيها وعزاءً لِزائريها. لكن لطالما لفت اهتمامي سؤالين وجدانيّين: لماذا وُجدت المدافن، وكيف يمكننا تعريفها؟ يحدثُ الكثير في هذه الأماكن التّي تضمّ أكثر من مجرّد كونها مكاناً للحداد أو «للتخلّص» من جثثٍ أو أشلاء. يبقى السؤال الأكبر ربّما: ما حاجة الأحياء لمكانٍ يضعون فيه أشلاء تَأكلها الديدان ويُصرونَ على زيارتها؟
في كتاب Yankee City، قدّم وارنر نموذجاً نظريّاً ومنهجيّاً يكشفُ خصائص المقابر ومعانيها المتعدّدة ضمن المشهديّة الثقافيّة للمدن وذلك بالتطرّق إلى الرمزية الفرويدية والأيقونية المسيحية. وبالاعتماد على نظريّة عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم، حلّل وارنر المقبرة على أنها نسخة «طبق الأصل» عن المجتمع الحيّ إلا أنها نسخة مقدّسة ورمزية. إنها في الواقع المكان الوحيد والأخير الذي يربط الأحياء بأمواتهم. المكان الذي يمكن من خلاله للأحياء أن يؤكدوا على استمرار وجود موتاهم من خلال الذاكرة.
إذا ما أردنا أن نأخذ أمثلةً من أرضِ الواقع، فستكون بيروت هي المكان الأمثل: صخبٌ دائم، ازدحامُ سياراتٍ، دوائرُ رسميّة، قصورُ العدل، مكاتبُ الترجمة، مُديرياتٌ عامة، مقاهٍ، دكاكين وعربات. حاناتٌ ومكبّات نفايات وصهاريجُ مازوت. بنوكٌ، أفران، أناسٌ بِبذلاتٍ رسميّة وآخرون بملابس رياضية... والمدافنُ.
ضمن كلّ هذه الحركة اليوميّة والدائمة نهاراً، وفي بعض الفترات ليلاً، تجِدُ مدافنَ لا يأت على ذكرها أحد، وهنا كذلك لن نأتي على ذكرها كلّها. إنها بطبيعةِ الحال مدافنُ مقسمّةٌ تقسيماً طائفياً وإلى حدٍّ كبيرٍ مناطقيّاً. مدافن للروم الملكيّين الكاثوليك، وأخرى للموارنة، روضة الشهيدين، مقبرة الباشورة، المقابر اليهوديّة... وبحسب خبرتي المتواضعة للمدافن المسيحيّة المارونيّة الكاثوليكيّة، فإن المدافن تقسّمُ هندسيّاً على شكل ممراتٍ مصفوفةٍ واحدة تلو الأخرى، ضمنَ ما يُسمى بالأحياء، وفي كلّ حيّ مدافن لعائلاتٍ محدّدة.
بالنظرِ إلى معماريّة المكان، نُلاحظُ أنّ الخصائص المادية للمقبرة تُتَرجمُ بمساحةٍ مُحددةٍ ومرتبةٍ، تُرسمُ على شكل مربّعٍ مقسّمٍ لقطع محدّدةٍ بدقة ووضوح، ما يُعيدنا إلى الفكرة نفسها، نسخة «طبق الأصل» عن المجتمع الحيّ.
لو أنني ككائن حي لا أقوم بزيارة مقبرة جدّتي، لو أننّي لا ألقاها سوى في الذاكرة، كان سيصعب أن تظلّ ماثلة بين أفكاري. يجري لقائي بكلماتها وأثر قبلاتها بين المدافن في المنطقة الجبليّة. لقد توقّف وجودها منذ فترة. تستمرّ ذكراها عبر باقة الورود التي أبتاعُها لدى ذهابي لزيارتها. تضحكني كلمةُ «زيارتها»، خصوصاً أنني على يقينٍ بأنّها ليست في هذا المكان. ليست داخل «مدافن العائلة» التي لا تعدو كونها كتل حجرية مصفوفةٌ بشكلٍ هندسيٍّ.
ربّما تأتي المدافن، على اختلاف أشكالها وجغرافيّتها، كأماكنَ تؤكّد للأحياء أنّهم لن يُنسَوا بعد رحيلهم. وجود الأحياء في مكانٍ ساكنٍ قد يولّد شعوراً بالخوف مما سيأتي بعد لحظة الموت وشعور بالحنين لا نهاية له. لحظة الموت صعبة على الحيّ لا الميّت، والأصعب دائماً هي لحظة إقفال النعش ووضعه في سيارةٍ سوداءَ طويلة مخيفة، وقيادتها بعيداً من قبلِ شخصٍ غريبٍ لا تعرفهُ. لحظة الدفنِ هي لحظة اصطدام الواقع بأكبر مخاوفِ الإنسان. بعد كلّ ذلك، لن يتبقّى لنا سوى هذا المكان لزيارة «اللا أحد» بل زيارةٌ لذكرياتنا، ولما كان يمثّله هذا الشخص بالنسبة إلينا. نقدّس هناك حنيننا له وللوقت الذي مضى، تماماً مثلما قال محمود درويش عن الحنين أنّه «تكرار للذكرى وقد صُفيت من الشوائب». نزورُ المدافن وقد تلاشى ما في داخلها قلباً وقالباً وعاد إلى حالة الصفر واللاوجود. نُبقي على إصرارنا لإحياء ذكراه وذكرى حنيننا لوجوده من خلال التواجد بين أزقةٍ خاليةٍ من أيّة حياةٍ بمعناها البسيط. مدافن أمواتنا ليست لهم. المكان هناك لنا. نقسّمه على قدر إمكاناتنا. نرمِّمُه حين يتهدّم. نبقيه مزيّناً بالورود والشموع. نصلّي لراحةِ ساكنيه. ونأمُل، عند اندثارنا أن يأتي مَن بعدنا من يُبقي ذكرانا حيّةً.