تروّض الكاتبة الورقة البيضاء وتستدعي بطلتها المواربة في عملية عصيبة سترهق كلتيهما. فالكتابة ليست انتظار الوحي في ساعات الليل المتأخرة أو إلقاء قصيدة في مقهى خافت الإضاءة. الكتابة هي، حسب هيمنغوي، النزيف فوق الآلة الطابعة. الكتابة هي محاولة تحقيق المستحيل وحاجة ملحة إلى الفرار من النفس وتحقيقها في الوقت ذاته. الكتابة هي، على عكس تصوراتها المرمسنة، عملية عصيبة وعنيفة أيضاً.علاقة الكُتّاب مع أبطالهم هي علاقة معقّدة وممتدة. في مقطع هو من أجمل ما قرأت، يصف الكاتب بوريس باسترناك في روايته «دكتور جيفاكو» هيام بطله، دكتور جيفاغو بحبيبته لاريسا فيديروفنا. يقول جيفاغو: «كان يكفي الاقتراب منها، لمسها بالإصبع، هذه الفتاة، لكي تنبجس الشرارة التي ستضيء الغرفة، والتي ستملؤكَ، إذا لم تصرعكَ في مكانكَ، برغبة لجوج، أليمة، ستسيطر عليك مدى الحياة. كان كياني كله يبكي ويشع مليئاً بالدمع التائه.

رسم (ميليسا شلهوب)

كنت أحس بالرثاء الكبير للطفل الذي كنته، وخاصة للفتاة، لكِ أنتِ. كنت مذهولاً، أتساءل: إذا كان الحب وتلقي الكهرباء يولدان مثل هذا الألم العظيم، فكم يكون، ولا بد، أكثر إيلاماً، أن يكون الإنسان امرأة، أن يكون الكهرباء، أن يلهم الحب». في تناص مهيب ندرك، عند القراءة المتمعّنة، أن الإنسان المتألم لكهربائه الجوانية ليس هو جيفاغو، بل الكاتب باسترناك نفسه. فهو الكاتب الذي يثير هذه الكهرباء في القراء، ملهماً الحب، وهو المتألم أكثر لأنه يحملها - أكثر، حتى، من بطل الرواية. فتلمح هذه الجزئية إلى وجود آخر أو مرآتي في الأعمال الروائية (الجيدة منها على الأقل) وهو الوجود الموارب والمتورّط كما نرى في دكتور جيفاغو مثلاً، للكاتب كبطل. وإن هذا الوجود بحد ذاته، أي وجود البطلات والأبطال في الكاتبات والكتاب ثم ترجمتهم على الورق ومن ثم قراءتهم من خلال النص، كلُّ ذلك يجعل من الكتابة عملية مستنزفة ذهنياً وعاطفياً. تومض هذه الفكرة في كتاب الشاعر الأميركي بن ليرنر المُعنون «كُره الشِّعر» (The Hatred of Poetry) والذي يشرح فيه العملية المضنية لكتابة الشعر وذلك لأن هذه العملية، بالنسبة إليه، ليست صعبة، بل مستحيلة وذلك أن القصيدة بحد ذاتها، أي وجودها، بالنسبة إليه، هي دليل على الإخفاق. يتأتّى هذا الإخفاق من كون الشعراء، حسب ليرنر، نماذج تراجيدية بسبب عدم قدرتهم على التغلب على القطبية التي تملي وصف عوالم بديلة لكن من خلال استخدام مواد ترفض الحالات البديلة، أي اللغة العادية من خلال التمثيل. ولذلك، نستطيع أن نستشفّ وجود بقايا أثيرية عالقة في ذهن هذه النماذج التراجيدية التي لا تستطيع ترجمتها من خلال أدوات اللغة العادية. ينتج هذا التقصير بين الصور المختزلة في أذهان الشعراء والشاعرات وعوالمهم الأثيرية وبين لغة الوصف العادية شعوراً عصيباً ربما بعدم الانتماء إلى مكان الشعر في النفس وفي العالم الموصوف، ما يجعل من الكتابة عملية عصيبة من ناحية وجودية أيضاً.
في حالات معينة، شديدة الجدية، تكون الكتابة بذاتها نوعاً من التماهي مع حالة الكاتب. في كتابه الملهم، «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966»، يذكر الكاتب والمناضل غسان كنفاني قصيدة خلفها مناضل فلسطيني مجهول الهوية، قبل شنقه أثناء أحداث الثورة الفلسطينية عام 1936 أقتطف هنا جزءاً منها:
«يا ليل، خلي الأسير تايكمل نواحو/ راح يفيق الفجر ويرفرف جناحو/ تايتمرجح المشنوق في هبة رياحو/ شمل الحبايب ضاع وتكسروا اقداحو
يا ليل وقف تاقضي كل حسراتي/ يمكن نسيت مين أنا/ ونسيت آهاتي/يا حيف! كيف انقضت بيديك ساعاتي؟»
فهذه القصيدة، التي يعي كاتبها غياب القراء أو الجمهور الذي بإمكانه الاستماع إليها وتذوّقها ونقاشها والتورط من خلالها معه، قد وُجدت سهواً فقط. أي أن القصيدة المؤلمة خُلقت في غياب الآخر المتلقي، ما يزيد من مأساوية الكاتب البطل والحالة الجمعية الفلسطينية الملتصقة به فالمتماهية أيضاً في قصيدته. الذي يُفهم من ذلك أن سبب نظمها هو تماهي الكاتب فيها واستخدامها للتخفيف قليلاً عنه. بهذا، يكون الكاتب هو نفسه البطل بشكل جوهري ونقي من غير الحاجة إلى موصل أو رسول أو حتى متلقٍّ. بالرغم من أن الكتابة عملية تحريرية تفتح الذهن على نفسه وعلى العوالم التي تحويه، إلا أنها عملية عصيبة أيضاً لا تنضوي دائماً تحت الصور المرمسنة المتخيّلة عنها. فالبطلات والأبطال الذين يلاحقوننا لنخلقهم من خلال الكتابة يزيدون من صعوبة عملية الكتابة، وأيضاً لعدم قدرة الكلمات المطبوعة على الاكتناز بالأخيلة التي نريد أن نريها للعالم. ولكن تبقى الكتابة، بالرغم من كل عقبات ممارستها، عملية لاعادية نحاول من خلالها أن نترجم انطباعات الأشياء والأفكار وترابطها، بعضها ببعضها الآخر المتلقي. وتبقى الكتابة هي العملية الأقرب والأكثر حميمية نحو التفاعل مع العالم ومع أنفسنا والتجارب الإنسانية التي لا يسعها شيء.