بمناسبة الانتخابات البلدية والاختيارية، أو من دونها، وفي حالة الانهيار الأخيرة، أو من دونها، كثرت عادة الاستعانة بمتموّلين لإنشاء مشاريع صغيرة في المدن والقرى. تُراوح هذه المشاريع بين شراء مولّدات، أو ألواح شمسية، من أجل إنتاج الطاقة وتوزيعها، أو تأمين مياه، أو إصلاح طريق، أو شراء سيارة إطفاء، أو إنشاء مستوصفات أو مراكز طبية، وتوزيع أدوية أو مواد غذائية أو دفع أقساط مدرسية أو إنشاء حدائق عامة… وغيرها من المساعدات الاجتماعية المعروفة. يحصل كلّ ذلك من أجل الترشح لاحقاً إلى البلديات أو إلى النيابة، لتمثيل الشعوب وخدمتها. وإذ تبدو هذه الظاهرة طبيعية في بلد انهارت فيه الدولة وأفلست، كما انهارت مداخيل قسم كبير من الطبقة الوسطى التي كانت تعدّ المحرّك الأساسي للعمل السياسي والاجتماعي… كان لافتاً، لجوء الطبقة السياسية نفسها إلى مثل هذه الأساليب، إما بالاستعانة بمتموّلين من الحزبيين وأصدقائهم التقليديين نفسهم، الذين اغتنوا من تغطية السياسيين أنفسهم (المتسبّبين بالكوارث الوطنية والمحلية) وتسهيل مصالحهم، وإما بالتحالف أو التنسيق مع متموّلين جدد، جمعوا ثروات من خارج الحدود.
يتفهّم البعض ما يحصل وعودة هذه الظواهر في حالة الانهيار الشاملة، على اعتبار أنها تسدّ الفراغات التي تركتها انهيارات الدولة والسلطات المحلية معاً. إلا أن هذه الحالة ليست بجديدة، لا بل هي حالة تأسيسية منذ تكوين هذا الكيان الصغير الهشّ، مع سيطرة عائلات متموّلة وتجار على مفاصل بناء الدولة وسياساتها العامة والخاصة فيما بعد. أي إن هذا النهج، لا يزال هو نفسه المتسبّب بكوارث بين فترة وأخرى. مع الإشارة إلى أن حالة الغنى الفاحشة عند البعض، من داخل الوطن أو من خارجه، ما كانت لتحصل على المستوى الفردي بالإجمال، إلا في حال نجح الأفراد في التهرّب (الضريبي) أو الغش والاحتيال أو استغلال شعوب وموارد لغير دول وشعوبها. أي إن صعود بعض الأفراد وجمع الثروات ما كان ليحصل إلا بالتواطؤ مع من في الدولة وعلى حساب بنية الدولة، هنا أو هناك.
من هنا يطرح سؤال حول كيفية تقييم مثل هذا السلوك، ليس عند المهرّبين والمتهربين فقط، بل عند المروّجين لمنطق نجاح الأفراد «الاستثماري»، على حساب إفشال الدول التي يفترض أن تكون هي المسؤولة عن إدارة الشأن العام والموارد. المشكلة قيمية إذاً، عند منظومة القيم الاجتماعية والشعبية، قبل أن تكون عند منظومة حكم، كما درجت العادة في النقد وفي تحميل المسؤوليات.
وهنا تجدر الإشارة، كم تبدو بعض الأحزاب المعارضة سخيفة أو مواربة عندما تنطلق من نقدها «المنظومة الحاكمة»، وهي في عقليتها ومنظومتها القيمية المذكورة، ليست إلا مشروعاً منافساً لتلك وليست مشروعاً بديلاً يحمل قيماً مختلفة أو مضادة وجديدة.
وقعت في المشكلة نفسها أيضاً الجمعيات، التي تسعى إلى الحصول على تمويل أجنبي من مؤسسات مانحة لكي تستثمرها في مشاريع صغيرة في المجتمع… والتي تحوّلت إلى قطاع خاص يبغي الربح أو التوظيف من تلك المشاريع، أكثر من أي شيء آخر، لا سيما عندما ترتب مشاريعها بحسب أجندات الجهات المانحة وليس بحسب حاجات المجتمع الحقيقية، وبناء على أهداف بعيدة المدى تؤسّس لدعم دور الدولة واستعادة دورها في الحالة الحاضرة. فكلّ هذه المشاريع الصغيرة، المموّلة خارجياً ذهبت هباء لأنها لم تنطلق من قاعدة تقول إن لا بديل عن دور الدولة، بوصفها عقل المجتمع، في إدارة الشؤون العامة وتنفيذ أدوار لا يمكن أن تسند إلى أحد غيرها، حماية حقوق الناس والأجيال القادمة وحفظ ديمومة الموارد.
فلماذا الإصرار على تكرار التجارب السابقة الفاشلة، أي تلك التي فشلت في بناء الدولة، أو تلك التي فشلت طبعاً في أن تشكل بديلاً عن بناء الدولة؟!
في الخلاصة، لبنان بعد حالة الانهيار الأخيرة التي ضربته، بات بحاجة إلى منظومة قيم وحكم جديدة. في طليعة هذه القيم التواضع والصدق. وهذا ما يتطلب التوقف عن مسايرة رأس المال غير الطبيعي والعسكرة والفساد المادي والفكري. واعتماد أفكار وسياسات متواضعة. لذلك، ليس مطلوباً في سياسات الطاقة كهرباء 24 على 24، على سبيل المثال، بل القناعة بالعيش مع طاقة أقل، مع أفضلية لاستخدام أدوات وممارسات موفرة لها وأن تكون مصادرها نظيفة ومستدامة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المياه، فليس المطلوب المزيد من المصادر وإنشاء المزيد من السدود، بل وقف السرقة والهدر وعدالة التوزيع. وكذلك الأمر بالنسبة إلى تعزيز النقل العام وتجنّب النقل الخاص قدر الإمكان، إلخ.
ما ينطبق على الشأن البلدي، ينطبق أيضاً على الشقّ البرلماني لإعادة تكوين السلطة، التي تعني تحمّل مسؤولية إدارة المجتمع والموارد. وليكن الانتقاء على أساس قيمي واختيار من يستطيع أن يحملها ويخلص لها. في طليعة هذه القيم الدفاع عن الحياة والحق فيها. الحياة الكريمة المتّكئة على فلسفة الكفاية وليس التنمية. قيم تخفّف من الذكورية المفرطة والعنف والعسكرة والنزعة الاستهلاكية المفرطة… وتُعيد الاعتبار إلى الجوهري في الحياة وليس إلى المظاهر والشكليات التي تميّز بها لبنان المنهار. فلا أصحاب رأس المال معيار، ولا حتى أصحاب الاختصاصات، المطلوب أناس لديهم رؤية أقرب ما تكون إلى الشمول، تدمج قضايا الطاقة مع المياه والنقل والصحة، مع قضايا الحريات على أنواعها وشبكة الحقوق المتنوعة. أناس يغلبون حبّ الحياة وحب الشأن العام والمساحات العامة والطبيعة… قد يحتاجهم لبنان الجديد أكثر من حاجته إلى المزيد من الاختصاصات والمختصين والخبراء الأجانب.
ليس صحيحاً أن العصر لم يعد للأفكار الكبرى، وأن هناك توجهات دولية للعودة إلى العمل المحلي وخصوصاً على المستوى البلدي. وإذ طالما كان شعار حركات الخضر في العالم في بداية صعودها «فكر عالمياً واعمل محلياً»، يفترض أن يكون الشعار اليوم، مع ظهور قضايا وجودية عالمية مثل تغيّر المناخ وتطوّر وسائط التواصل الاجتماعي، «فكر واعمل محلياً، كما لو كنت عالمياً».