هل تكفي ثمانية أيام لتقوم سفينة بـ«مسح بيئي» لرقعة محدّدة في المياه اللبنانية؟ وهل أن جمع بعض الصور لقاع البحر، وأخذ بعض العيّنات من المياه والرواسب، كافيان لإجراء «تقييم بيئي»؟! وهل يمكن في ثمانية أيام «القيام بمراقبة الكائنات البحرية في المنطقة»؟ طبعاً سيقال بعد ذلك إنه سيتمّ تحليل المعلومات والبيانات التي تمّ جمعها لإعداد التقرير ودراسة تقييم الأثر البيئي… وكل ذلك تمهيداً للبدء بعملية الحفر، وبسرعة فائقة! وإن هناك معايير عالمية لهذا التقييم التزم بها لبنان والشركة الملزمة… ولكن كلّ ذلك يدعو إلى المزيد من الشك، لا بل إلى القلق على مصير هذا البحر الصغير شبه المغلق والسكان والأجيال المقبلة… مع التحفظ على تفسير «التقييم البيئي» الذي لا يفترض أن يُحصر في بقعة محددة.
السؤال الأول الذي يفترض طرحه لتقييم الإعلان أمس عن قيام سفينة بإجراء مسح بقعة قبل الحفر، هل إذا حصل أي تسرّب أثناء الحفر الاستكشافي أو الاستخراجي، تنحصر الأضرار بالتنوع البيولوجي البحري في هذه البقعة؟ ثم كيف تتم دراسة ما تمّ تصويره؟ وما هو الهدف من ذلك؟ ومن يقوم بتحليل العينات؟ وهل سيتم تصنيف ودراسة الأنواع البحرية الموجودة كلّها، والأنظمة الإيكولوجية التي تربطها ببعضها، من أكبر إلى أصغر الكائنات الموجودة؟ وهل سيكون الهدف من كلّ ذلك، معرفة ما كان موجوداً، حتى إذا حصل حادث ما وأضرار محدّدة، تتم محاسبة الشركة الملزمة ومقاضاتها والتعويض على لبنان؟ وإذا كان الأمر كذلك، كما هو مفروض، هل تكلف الشركات نفسها الملتزمة بالحفر والاستخراج بالمسح والتقييم؟! ثم كيف يمكن التوفيق بين متطلبات الدراسة والتقييم التي تتطلب سنوات، (مع الشك بأن أحداً يستطيع أن يقوم بذلك كما يجب) وبين متطلبات «الإسراع» في إنهاء الإجراءات المطلوبة للبدء بالحفر الاستكشافي؟!
ثم هل تشمل الدراسة المخاطر كلها بالمقارنة مع تجارب مشابهة، ولا سيما لناحية السرعة في المسح والتقييم والحفر والاستخراج وعلى أعماق بعيدة وصعبة؟!
وهل تمّت دراسة وتقييم تجارب مماثلة في حال حصول تسرّب وكوارث؟
آخر الكوارث التي نرى أن ظروفها مشابهة، كارثة التسرّب في خليج المكسيك عام 2010. تتشابه حالة لبنان مع ظروف تلك الكارثة التي كلّفت شركة «بريتش بتروليوم» عشرات مليارات الدولارات (تقول الشركة في بيان لها بعد 6 سنوات على الحادثة إن الكلفة تجاوزت 60 مليار دولار)، لناحية أنها كانت تعمل على أعماق بعيدة (على عمق 1500 متر تحت سطح البحر) كما هي الحال في لبنان (على أعماق 1700 و1800 متر)، ما يزيد المخاطر بحصول أخطاء وحوادث وكوارث. كما تبين في تقييم هذه الكارثة أن أحد أهم أسبابها، كان هو اتخاذ القرار الذي أعطى الأولوية للسرعة وخفض التكلفة أثناء عملية الاستخراج! وهي الحالة التي وُضع فيها لبنان تحت ضغط حالة الانهيار التي ضربت لبنان وبدء العدو الإسرائيلي بالحفر والاستخراج في بقع مجاورة.
هل إذا حصل أي تسرّب أثناء الحفر الاستكشافي أو الاستخراجي، تنحصر الأضرار بالتنوع البيولوجي؟


ثم إن الحادثة حصلت مع كبريات الشركات العالمية ومع أكبر دولة في العالم كالولايات المتحدة الأميركية التي تُعتبر مثالاً في التقدّم العلمي والتشريعات والإجراءات الوقائية، كالمسح والكشف والدراسات والتقييم… وكانت الكارثة أن استمر التسرّب لأكثر من مئة يوم، لم تستطع الشركة ضبطه بعدما تسرّب أكثر من خمسة ملايين برميل، وشملت الأضرار والتلوّث مساحة 180 ألف كلم2، أي بما يتجاوز بشكل كبير أي مساحة لـ«بقع» تم مسحها ودراستها!
قُسّمت الأضرار بين قصيرة وبعيدة المدى، وبين قابلة وغير قابلة للإصلاح أو الاسترجاع. ولا يزال هذا التقييم غير نهائي حتى الآن، لأن الانعكاسات لا تُكتشف كلها ولا يمكن تقديرها، ولأن المسح المُسبق لا يشمل كل الأنواع والأنظمة الإيكولوجية، وبالتالي يستحيل تحديد كامل الأضرار والانعكاسات لأيّ حادث مشابه.
يحصل كل ذلك، ولبنان يعيش انهياراً شاملاً، سببُه فساد شبه شامل أيضاً، من رأس الهرم إلى أسفله... وغياب الدولة بإداراتها وتفكّكها. كما يحصل التقييم البيئي في وقت فقدت فيه وزارة البيئة الكثير من كادراتها، وهي لم تكن أصلاً مُهيَّأة لمراجعة الدراسات ذات الصلة، ولا لكيفية مراجعة التقييم البيئي الاستراتيجي لخيارات كبيرة وخطيرة بهذا الحجم، وفي غياب شبه تام لقوى المجتمع المدني البيئية عن هذا الملف، باستثناء وجود بعض الجمعيات التي سارت باكراً وسريعاً في ركب استثمار هذا الخيار بدل التحفّظ عليه، على غرار الجمعيات التي تستثمر في برامج الجهات المانحة أكثر من المدافعة في أي قضية وطنية مهما بلغ حجمها وخطورتها…
هذه الحالة، قد تُعتبر أفضل فرصة بالنسبة إلى المستثمرين، ولكنها ستكون أسوأ خيارٍ وتوقيتٍ بالنسبة إلى اللبنانيين.