كما هي حال كلّ المرافق التي تشهد تردياً، هي حال البحر اللبناني. عقود من المطالبات والقوانين لإنشاء محطات تكرير لمعالجة مياه الصرف الصحي لدرء الملوّثات عن البحر، كلّها أصبحت من الماضي. فاليوم، حتى القليل الذي أُنجز طوال العقود الماضية جاء الانهيار الاقتصادي ليجهز عليه بعدما توقفت محطات التكرير التي تعتمد المعالجة الأولية (التخلص من المواد الصلبة)، للحدّ من تسرّب الملوّثات، عن العمل بسبب عدم قدرة المحطات على تحمّل أكلاف المازوت والصيانة كما هو حال محطة سينيق في الزهراني.ويؤكد رئيس مصلحة الليطاني الدكتور سامي علوية أن أغلبية محطات التكرير متوقفة بسبب عدم توفر مادة المازوت، ما يفاقم التلوّث في المياه الجوفية ومياه البحر. ويشير في اتصال مع «الأخبار» إلى أن «المصلحة، وبتمويل من إحدى الجهات المانحة، أمّنت خط كهرباء لتشغيل محطة التكرير في جب جنين. أما بالنسبة إلى محطة صيدا فقد جرّبت مؤسسة كهرباء لبنان أن تمدّ الكهرباء من معمل الأولي لكي لا تُحوّل المجارير إلى البحر، لكن إنتاج مؤسسة كهرباء لبنان حالياً هو صفر بعدما توقف معملا الزهراني وصور، ولا تستطيع المؤسسة أخذ الكهرباء من المصلحة لأنه لا توجد شبكة متكاملة على خط 66».

عادت حليمة...
هذا الواقع يفتح المجال واسعاً أمام الحديث عن تلوّث مياه البحر، خصوصاً في الأماكن القريبة من مكبات النفايات.
بكثير من الأسى يتحدث نقيب الغواصين المحترفين محمد السارجي عن واقع البحر اللبناني اليوم. «وكأننا لم نفعل شيئاً طوال 20 سنة». يتذكر الحرب المديدة من أجل الحفاظ على البيئة البحرية، أبرزها كان الحملة الضخمة التي خيضت ضد جبل النفايات في صيدا الذي استمر ثلاثين عاماً، وكان أكبر مصدر تلوّث في مياه البحر المتوسط، حتى تحوّل بحر صيدا بعد النضال المرير إلى واحد من أنظف البحار. لكن «عادت حليمة لعادتها القديمة، ورجع مينا صيدا متل الزفت ورائحته تقتل. عادوا يرمون الزبالة في البحر، وبسبب توقف مضخة سينيق بجانب القلعة لعدم وجود مازوت لحمل مياه الصرف الصحي إلى محطة التكرير بالغازية، تنزل المياة الآسنة كما هي إلى البحر كما هو حاصل في محطة الجية».
يغطس محمد السارجي في البحر منذ حوالي 43 سنة. اكتشف جزءاً من جماليات بحر لبنان والبيئة البحرية المتميزة، علماً أن «القسم الأكبر لا يزال مغموراً ينتظر من يكشف عنه، لكن ذلك يحتاج إلى معدات ضخمة ومتطورة». خلال كل هذه الأعوام اكتشف السارجي أن «بحر لبنان جنة لكنها مهملة، مدن غارقة في أعماقه كصيدون ويرموتا وآثار 11 سفينة من بقايا حملة عهد الإسكندر المقدوني إلى صور، فضلاً عن الآبار الكبريتية وآبار المياه العذبة… الكثير والكثير من الحياة البحرية المتنوّعة الفريدة». لكنه اكتشف في المقابل «ومبكراً جداً، إهمال الدولة للبحر وهدر الثروة الوطنية الطبيعية والإجرام الذي يتعاطى به المسؤولون مع البحر واعتباره إياهم مطمراً ومصباً لكلّ المخلفات». يتساءل السارجي «هل من دولة في العالم تحترم نفسها وشعبها تردم البحر من أجل طمر النفايات؟! وأين صار مشروع إنشاء 11 محطة تكرير صرف صحي وفق نظام تكرير ثنائي على البحر؟ حتى الذي أنشئ وكلّف أموالاً باهظة كان من أجل تكرير أولي يزيل الصلب ويرمي المجاري كما هي في عمق البحر حتى 2 كيلومتر».

«الكوستا برافا»
الأخطر من ذلك هو ما رآه السارجي عند الغوص في مجال مطمر الكوستا برافا. «ثمة كارثة وقنبلة موقوتة تحت الماء. هناك غاز يخرج من عمق البحر، ليس الغاز الطبيعي إنما غاز الميثان بسبب طمر النفايات وعدم وجود طبقة عازلة تمنع تسرّب الغاز إلى التشققات في البحر. أين يتسرّب هذا الغاز؟ لا أحد يعلم لكن أكبر دليل على كلامي هو الغاز الذي يخرج من البحر ونراه عندما نغطس وحذّرنا منه. كذّبونا وقلنا إن هذا ادّعاء على الأقل لترسل الدولة كشفاً إلى المنطقة للتأكد قبل أن تقع الكارثة مثلما يحدث دائماً».
نفي لتسرّب ملوّثات نفايات أو غازات من مطمر الكوستا برافا إلى البحر


يؤكد مدير المركز الوطني لعلوم البحار الدكتور ميلاد فخري في حديث مع «الأخبار» عدم قدرة المركز على تحديد ما إذا كان هناك تلوّث بالغاز في البحر المحاذي للمطمر «هذا ليس من اختصاصنا إلا إذا طُلب منا». لكنه يوضح أن مطمر الكوستا برافا أنشئ بطريقة علمية وأيّ تهاون يعني الحديث عن إجرام بحق الناس، ما يستبعده تماماً. «الأمور ليست لعبة، ولو أنه في كل الأحوال لم يكن يجب إنشاء مطمر على البحر لأنه مضرّ بالتنوّع البيولوجي والحياة البحرية، لكن هذا ما حدث في الكوستا برافا وبرج حمود».
وعن التلوّث الموجود يشير إلى أنه «ليس بالضرورة أن يكون ناجماً من المطمر، فثمة الكثير من مصادر التلوث وأهمها القادمة من نهر الغدير وخصوصاً النفايات التي تُرمى كما هي في البحر. فبحسب العيّنات التي نفحصها، هذه المنطقة تحمل مصادر التلوث الأعلى».

لا تسرّب لأي ملوّثات
ينفي مجلس الإنماء والإعمار، المسؤول عن المطمر أيّ حديث عن تلوّث بالغاز مؤكداً «عزل قعر خلايا الطمر الصحي عند إنشائها، كما نُفّذت شبكة لتصريف العصارة وشبكة لتصريف الغاز، وحُفرت آبار هدفها سحب الغاز لحرقه في محطة مخصصة لذلك».
ورداً على سؤال «الأخبار» عن نزول نفايات المطمر إلى البحر، كان الردّ بأن النفايات «تُغلّف يومياً بطبقة ترابية عازلة تمنع تسرّب الروائح أو بعثرة النفايات. وعند إقفال الخلايا، بعد استنفاد قدرتها الاستيعابية يعزل سقف الخلايا بتنفيذ طبقات الإكساء. لذلك، لا يمكن للنفايات المطمورة أن تصل إلى المياه كونها محصورة داخل خلايا الطمر. كما لا يمكن تسرّب غاز الميثان إلى البحر كونه يتسرّب إلى الأعلى نتيجة طبيعته». كما أكد أن المطمر نُفذ وفقاً للمواصفات المحددة في العقد بما يضمن عدم حصول أي تسرّب سواء للغاز أو لعصارة النفايات أو للنفايات نفسها «ويهمنا التأكيد أنه يتم بشكل دوري إجراء فحوصات للهواء والمياه الجوفية ومياه البحر وتُرسل هذه النتائج دورياً إلى وزارة البيئة».
يقول ميلاد فخري إنه «لا شيء ميؤوساً منه. البحر يمكن أن يجدد نفسه». وهو ما يؤكد عليه السارجي «المهم أن نرحم البحر وهو ينظف نفسه بنفسه. لكن في هذه الحال شو رح يحارب ليحارب! وشو رح نترك للأجيال القادمة».