شرم الشيخ | لا يزال برنامج الأمم المتحدة للبيئة يصدر تقريره المعتاد عن "الفجوة" بين المطلوب للتخفيف من الانبعاثات والتكيّف، وبين الواقع. ووجد التقرير هذه السنة، كما أعلن عنه أمس في شرم الشيخ، أن تدفقات تمويل التكيّف الدولي إلى البلدان النامية تقلّ بين خمس إلى عشر مرات عن الاحتياجات المقدّرة. معلناً أيضاً أنّ احتياجات التكيّف السنوية هي بين 160 و340 مليار دولار أميركي بحلول عام 2030.في وقت ذكرت فيه تقارير أخرى أن البلدان المتقدّمة، التي يُفترض أن ترفد صندوق المناخ منذ عام 2020 بـ 100 مليار سنوياً، لم تضع فيه حتى موعد انعقاد مؤتمر شرم الشيخ سوى ما يقارب 10% من المبلغ المذكور في مؤتمر باريس.
التقرير الذي جاء هذا العام تحت عنوان "قليل جداً، بطيء جداً: فشل التكيّف مع المناخ يعرّض العالم للخطر"، كشف أيضاً أن المساهمات المحدّدة وطنياً للبلدان (NDCs) بموجب اتفاقية باريس بشأن تغيّر المناخ مخيّبة ووضعت العالم على طريق الاحترار العالمي من 2.4 إلى 2.6 درجة مئوية بحلول نهاية القرن!
خطابات رؤساء الدول في بداية المؤتمر شكّلت فجوة كبيرة هي أيضاً مع واقع كوارث المناخ. وقد ظهرت غالبية الخطابات كبرامج انتخابية داخلية أكثر منها برامج إنقاذية للمناخ. ولا تزال القاعدة القائلة "إن الدول الكبرى التي تتنافس في كلّ شيء وعلى كلّ شيء، لا يمكنها أن تحلّ قضية كبيرة مثل تغيّر المناخ تحتاج إلى تعاون دولي". وعالم منقسم، تفصل بين بلدانه المتقدّمة وتلك النامية فجوة كبيرة في طرق الإنتاج والاستهلاك والعيش… لا يستطيع ولم ينجح حتى الآن في خلق إطار معيّن للتعاون والإنقاذ.
هذه "الفجوة" نفسها، لم تنجح الأمم المتحدة في ردمها، بالرغم من اقتراحها الشهير في بداية المؤتمرات الدولية ذات الصلة (قمة الريو عام 1992) مقولة "المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة" للتوفيق بين المسؤولين والمسؤوليات، والتي تُرجمت عملياً في اتفاقية باريس عام 2015. هذه الاتفاقية، التي جاءت تحت عنوان "المساهمات المحدّدة وطنياً"، لكي تساهم كلّ دولة حسب قدرتها في الحلّ! بعدما كان بروتوكول كيوتو عام 1997 ملزماً للدول المتقدمة فقط، والذي فشل في إرغام تلك الدول بأن تخفّض انبعاثاتها أولاً، تاركاً "فسحة" للبلدان النامية بأن تأخذ فرصتها من "التنمية". وكانت النتيجة، أن الكوارث لم (ولن) تميّز بين البلدان، بالرغم من حجم المسؤوليات المتباينة.
ليست الكوارث وحدها هي التي باتت تجمع بين البلدان، الحلم بالتنمية لا يزال هو العنصر الجامع وهو المتسبّب الأكبر بالكوارث المناخية. الحلم الذي حقّقته البلدان المتقدمة والذي لا يزال حلماً عند تلك النامية. ومن العبث القول إن الحلّ سيكون علمياً وتقنياً، إذا أبقينا على الحلم نفسه، وعلى تبني الأفكار المسيطرة في هذا العصر ولا سيما تلك التي تتعلق بالتنمية والتقدّم والرفاهية. فإذا أراد العالم أن يحافظ على تقدّمه وعلى برامجه الإنتاجية والاستهلاكية ولا سيّما في مجال استخدامات الطاقة الأحفورية، فلا شيء يعوّض في المدى المنظور عن الوقود الأحفوري، الكثير الانبعاثات، سوى الطاقة النووية، وهي بالمناسبة تعتمد أيضاً على وقود ناضب وغير متجدّد ولديها مخاطر كبيرة، يمكن أن تكبر أكثر وأكثر في حال توسعها، قد تعادل مخاطر تغيّر المناخ. من هنا لن يعود هناك من حلول إلا بتغيير النموذج الحضاري المسيطر الشره على الطاقة والموارد الطبيعية والذي لا حدود لاستثماراته، والتراجع عن اقتصاد السوق القائم على المنافسة. وهذه القضايا لم يتم وضعها يوماً على جدول أعمال المفاوضات المناخية… حتى وصلنا إلى نقطة اللاعودة وباتت الكوارث المناخية تهدّد كلّ مكتسبات الحضارة والتنمية التي عرفتها البشرية.
لم تضع البلدان المتقدّمة سوى ما يقارب 10% من المبلغ المذكور في مؤتمر باريس


ولكن السؤال الآن، من سيقترح هذا النموذج الحضاري الجديد والمنقذ للنوع الإنساني والتنوع البيولوجي، إذا كانت الدول، بأنظمتها المتعدّدة، والتي وقّعت جميعها على اتفاقية باريس بالمناسبة، قد عجزت بعد نصف قرن تقريباً من المناقشات والمؤتمرات عن حلّ هذه المشكلة الوجودية؟
يراهن البعض على المجتمع المدني والعلمي. ولكنّ هؤلاء لم يكونوا بعيدين تاريخياً عن المشاركة بشكل أو بآخر في المؤتمرات المذكورة، من دون أن يكون لهم الأثر الكبير في تغيير الأفكار والقيم والسياسات في مواجهة أصحاب المصالح والشركات الكبرى المسيطرة والمتحصّنة خلف أنظمة متنوّعة الأشكال والألوان.
وقد أدّى منع المجتمع المدني من التظاهر في هذه الجولة من المفاوضات في مصر، إلى أن يفقد المؤتمر نزعته الفولكلورية المعتادة. أما معارض "الابتكارات" العلمية التي يفترض أن تساهم في اقتراح حلول علمية وتقنية لتغير المناخ، والتي احتلت أحد مقرّات المؤتمر، فقد زاد طابعها الفولكلوري أيضاً بالنسبة إلى كوارث المناخ. ويبدو أن "الفجوة" التي تتحدّث عنها الأمم المتحدة باتت أيضاً كبيرة بين تقاريرها وبين واقع الكوارث أيضاً، التي أصبحت تتجاوز أكثر السيناريوات والتوقعات تشاؤماً.