تُعدّ محمية شاطئ صور ومحيطها أحد الموائل النشطة لأنواع عدة من الطيور المقيمة والمهاجرة والتي تلعب أدواراً في النظام البيئي للمحمية والمجال الحيوي لكامل المحيط. إلا أن استقرار مجموعة من طيور المينا على تخومها، وتكاثرها، يهدّدان بالإخلال بالنظام البيئي، بوصفها من أنواع الطيور الغازية، ما يتطلّب تدخلاً سريعاً لمنع تفاقم الضرر وتعقّد الكيفية التي يمكن التعامل بها معها. ينسب تشارلز إلتون إلى الأنواع الغازية التسبّب بما وصفه أحد أعظم الاضطرابات في عالمَي النباتات والحيوانات، في إشارة إلى آثارها البعيدة والعميقة على الأنواع والنظم البيئية على حدّ سواء. آثار تذهب إلى أبعد من التداعيات القصيرة والمتوسطة الأجل التي عادة ما يتم التركيز عليها تقييماً، إلى تأثيرها على عملية تطوّر الأنواع الغازية وأطوار اندماجها في النظم البيئية الطارئة عليها وآثار ذلك عليها وعلى الأنواع المتوطنة على المدى البعيد على ما بحث غيرات فيرميجي. موضوع يحظى باهتمام متزايد نتيجة تداخله مع مؤثرات التغيّر المناخي على الأنواع والنظم ومسألة تراجع التنوع البيولوجي.
تشكل الأنواع الغازية أحد أخطر التحديات على التنوّع البيولوجي، والتي تضمّ العوامل المباشرة لتدهور التنوّع والمتسبّب بها بشكل أساسي الأنشطة البشرية مثل استخدامات الأرض/البحر وتغيّرها، وعملية إزالة الغابات والممارسات الزراعية، وأنشطة الصيد الجائر للأنواع، والتلوث، فضلاً عن تغير المناخ (IPBES، 2019).
وتشير التقارير الصادرة عن "المنبر الحكومي الدولي للعلوم والسياسات في مجال التنوّع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية" IPBES، إلى التحدي الذي تشكله الأنواع الغازية من ضمن أهم التحديات التي تواجه التنوع البيولوجي واستدامة النظم البيئية. ويأتي ذلك لأسباب عدة، فقد تنافس الأنواع الغازية الأنواع المحلية المتوطنة على الطرائد، ومصادر الطاقة والغذاء، وقد تستهدف صغارها والأعشاش. وبقدر تمتعها ببعض الميزات على تلك المحلية، تكون وطأة ونطاق التأثيرات. وقد ينتهي الأمر إلى استبدال النوع المحلي، بمعنى آخر تراجع أعداده إلى حدود انقراضه محلياً ولهذا آثار معقّدة بعيدة وواسعة.
وحتى في حال عدم انقراض الأنواع المتأثرة بالكامل، أي مادياً من البرية، فإن تراجع أعداد نوع ما إلى حدود معينة قد يؤدي إلى انقراضه وظيفياً Functional extinction، وهي الحالة التي تتراجع فيها أعداد النوع إلى حدود يفقد معها توفير الوظائف التي كان يؤديها في النظام البيئي.
ويختلف مستوى وحجم الآثار السلبية لتراجع أعداد النوع المتضرر بقدر موقعه ووظائفه ودوره في النظام البيئي، كما في حال كان النوع متوطناً متفرداً. ولذلك، في كلتا الحالتين، سواء مع تراجع أعداد النوع أو في انقراضه الوظيفي، تداعيات كبيرة على وفرة وتنوّع الأنواع النباتية والحيوانية المحلية والمتوطنة التي ترتبط في ما بينها بعلاقات متداخلة، سواء من خلال موقع كلّ منها في السلسلة الغذائية وفي المركب الوظائفي المعقّد للنظام البيئي. وهنا يكمن واحد من أهم مواضع الإخلال الذي يصيب النظم نتيجة لنشاط الأنواع الغازية. موضوع لا يزال معرض دراسة بغية سبر غور حجم تلك الآثار على استدامة النظم، وهو أمر من شأنه أن يساعد في تحديد الكيفيات الفضلى للتعامل معها.
ولهذا الإخلال أوجه عدة: فقد يؤدي فقدان الأنواع وتراجع التنوّع إلى ما اصطلح عليه بالتجانس الحيوي ‘biotic homogenization’ (BH)، بين النظم البيئية، مسألة من شأنها أن تطاول بشكل مباشر المحيط الحيوي ككلّ، تحدّ يحضر في المواقع التي يسيطر فيها المؤثر البشري.
يوصف التغيّر المناخي باعتباره عاملاً محايداً، ومعظم الأحيان مساعداً هاماً للأنواع الغازية للتمدّد، وهو يسرّع معدلات الاستعمار في النظم المعرّضة في ما يسمى الهجرة التكيّفية، فيما يُضعف قدرة الأنواع المحلية التي تناضل للتكيّف مع المتغيّرات على المنافسة، خاصة في النظم البيئية الهشة أو الحساسة البرية منها والبحرية ويُضعف، في المحصّلة، سلامة التجمعات الحيوية.
وقد لحظ تقرير IPCC لعام 2014 التفاعلات بين تغيّر المناخ والأنواع الغازية وبين الأمراض، باعتبارها مصدر قلق خاصاً (الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، 2014). فالأنواع الغازية، والتي قد تكون حاملة للأمراض، تحمل معها إلى المواقع الجديدة مسبّبات انتشار هذه الأمراض في بيئة غير معروفة فيها، وقد تزداد احتمالية ظهور أمراض جديدة. كما تؤدي الظروف المناخية المتغيّرة إلى تحوّلات في نواقل الأمراض (مثل بعوض الملاريا والقراد) وإمكانية إطلاقها من الضوابط الطبيعية.
هذا الإخلال يشمل نطاقاً ومستويات مختلفة تطاول تنوع ووفرة الأنواع، يضيق ذكرها في مقالتنا التي تهدف إلى تناول انتشار ما يُعدّ أحد أسوأ الأنواع الغازية، طائر المينا الشائع Common Myna (Arcidotheres tristris)، وهو ما لاحظناه في زيارات متكرّرة لمواقع مختلفة في مدينة صور التي تحوي محمية طبيعية تضمّ موقعاً مصنّفاً للأراضي الرطبة، واحدة من أكثر النظم البيئية البرية حساسية وتعقيداً وعرضة لتحديات التغيّر المناخي. وهذا ما يجعل مسألة استقرار وتكاثر مجموعة من الطيور الغازية في محيطها الحيوي غاية في الخطورة. هناك توثيق لمشاهدات نوع غازٍ آخر هو الباراكيت أخضر (Psittacula krameri) في بعض المناطق الحدودية مع فلسطين، ميس الجبل وكفركلا، لا يزال محدود العدد.
يُعدّ المينا الشائع أحد أكثر أنواع الطيور الغازية تحدّياً على مستوى العالم، بالنظر إلى مقدرته على منافسة الأنواع المحلية والتكيّف والتكاثر في الظروف المناخية المؤاتية التي يوفرها التغيّر المناخي، وسلوكه في تخريب واحتلال أعشاش الطيور الأخرى. فضلاً عن اعتباره، في حالات انفلات أعداد المجموعات، آفة زراعية.
وقد خلصت دراسات رصدت آثار نشاط المينا على الأنواع الحضرية المحلية، تراجعاً كبيراً في أعدادها. فعلى سبيل المثال في فلسطين لوحظ تراجع أعداد طائر الدوري بشكل حاد في المناطق التي شهدت تزايد أعداد المينا.
ثمة احتمالان رئيسيان لمصدر انتشار طائر المينا في صور ومنطقتها. يتم التركيز عادة على تواجد مجموعات منه في بيروت كمصدر لانتشاره على الساحل، حيث سُجّل تواجده منذ التسعينيات في محيط الجامعة الأميركية، ويُرجّح متابعون أن يكون ذلك نتيجة هرب عدد منها من محال الطيور، قبل أن تتكاثر تباعاً وتنتشر في أكثر من موقع في المدينة -شاهدت مجموعة منها وسط المدينة في موقع الحمامات الرومانية أخيراً- قبل أن تنتشر خارجها.
أما الاحتمال الثاني، فهو أن تكون الطيور قادمة من الجنوب في فلسطين، حيث تشير التقديرات المتحفّظة إلى وجود مجموعات من الطيور بلغ عددها 500 طائر في نهاية عام 2003 على ما حدث مع حالة انتشار النوع في سيناء.
وقد تكون هناك إمكانية لاحتمال ثالث، وهو أن تكون أسراب من الطيور وصلت من أحد المصدرين بداية، قبل وصول أسراب أخرى من المصدر الآخر.