الخلاصة الأولى التي يُفترض استنتاجها، بعد الجائحة وما بعد أزمات المناخ والبيئة، أن القلق على المستقبل لم يعد في الزمان بقدر ما بات مرتبطاً بتغيّرات المكان.أن يصبح الإنسان معنياً بالمكان أكثر من اهتمامه بالزمان ليس تفصيلاً في حياتنا اليومية وحياة الأجيال المقبلة. القلق على المستقبل لم يعد يعني قلقاً في الزمان بقدر ما هو قلق في المكان، وفي ديمومة الموارد وعناصر الطبيعة الأساسية. فعندما نفكر في كيفية العيش في المستقبل، علينا أن نهجس بمستقبل المكان، بعد أن نسأل: أين سنعيش ومع من؟
[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
جائحة «كورونا» كانت بمثابة «بروفا عالمية» لمستقبل عيش الإنسان. عنوانها الرئيسي العيش في اللايقين وفي حال خوف من الآخر، مع الشعور بأفضلية الحجر والبقاء في عزلة وفردية أعلى. ليست العزلة سبباً وحيداً للشعور بالبؤس، بل سنكون محكومين بالندم أيضاً. فعندما نكتشف أنه كان علينا التصرف من قبل (ولم نفعل)، سيكون قد فات الأوان. بهذا المعنى، سنعرف أيضاً أنه لم يعد من معنى للزمان إلا في حالة انتظار المستقبل الكارثي. وهذا ما سيحملنا على اعتبار اللحظة و«الآن» بأنهما كل الزمان.
من الآن وصاعداً، نحن محكومون بالتفكير في كيفية الحد من الأضرار باستمرار. وهذا يعني ضعفاً، لا بل انعداماً للرؤية والتخطيط للمستقبل، ما يعني أيضاً فقدان الأمل والتفكير بإمكانات التغيير وإعادة البناء والمراكمة…
فقدان الأمل، يجلب معه أيضاً فقدان التأمل، تماماً كما تسببت مرحلة كثرة الاستهلاك والاهتمام بما هو موجود بنسيان الوجود، وهي المرحلة التي مجّدت الأدوات وجعلتها غاية بذاتها، نعمل ليلَ نهارَ من أجل الاستحواذ عليها واقتنائها… ما جعلنا نصبح أدوات مثلها. فقدان الأمل والتأمل وعيش اللحظات يجعل من الإنسان كائناً جديداً من دون أفق ولا تاريخ ولا مستقبل، وهي مرحلة يصعب التأمل في نتائجها بشكل واضح وحاسم.
سيكون هذا الكائن الجديد محكوماً، أيضاً، بالتفكير في سبل التكيّف مع الكوارث والتعايش معها، ولا سيما الصحية والمناخية. وسيكون أمام وضعية التكيّف مع كوارث لا رجعة فيها ولا حلول ولا شفاء منها!
لنتخيل تلوّث التربة أو المياه، خصوصاً الجوفية منها، التي لا رجعة فيها. لنتخيل انقراض الأنواع التي لن تعود. والتلاعب في جينات الإنسان والمزروعات وتهديد الأنواع. لنتخيل قضية تغيّر المناخ وتراكم غازات الدفيئة في الغلاف الجوي التي لن تختفي حتى لو توقفت الانبعاثات العالمية كلياً (وهذا مستحيل). لا شيء يمكن أن يعود. ولا شيء يمكن أن يعوّض المكان المفقود.
عملياً، سنكون أمام خيار التفكير في الحاضر المهدّد بدل التفكير في المستقبل. ستخرج المواضيع من ثنائيات كثيرة، ولا سيما ثنائية التشاؤم والتفاؤل. كل شيء سيكون محكوماً بالمكان. هو مصدر تقلبات المزاج.
عرف الإنسان القديم اللاعودة في الزمان أكثر من معرفة اللاعودة في المكان. اللاعودة في الزمان تمّت استعادتها بالحلم أو في الخيال، في فنون الرسم والنحت والشعر… أما اللاعودة في المكان فلا يمكن استعادتها في المطلق. انقراض الأنواع نموذج لعدم القدرة على الاستعادة. الانقراض نموذج مخيف إذا نظرنا إلى الحياة كشبكة أو سلسلة مترابطة من الأنواع التي تعيش من (وعلى ومع) بعضها بعضاً. انقراض نوع من هذه الشبكة يعرّض بقية الأنواع أيضاً للانقراض.
أزمة البيئة ستصبح مع الوقت أزمة وجودية أخطر وأصعب بكثير من الأزمات الاقتصادية التي عرفناها وتلك التي نمر فيها. ليس هناك من بنك مركزي للأنواع لدعم الحياة. وبالطبع، لا رجاء من البنك الدولي الذي يتحمل أكثر من غيره مسؤولية تمويل أدوات تدمير الكوكب عندما ابتدع وموّل مفاهيم مسيطرة كالتنمية. وليس من مفهوم خرّب التوازنات وقضى على الأنواع في تاريخ البشرية أكثر من التنمية التي تجاوزت آثارها بأشواط مفاعيل مفاهيم مثل الاستبداد والاستعباد. صحيح أن من ابتدعه كان يتأمل النباتات ونموها، الا أنه حوّر مسارها مثلما يحور الإيديولوجي الحقائق لمصلحته. النمو في النبات قضية حياة وموت. والدخول في حلقة دائرية تموت البذرة لتنمو وتصبح شجرة من جديد ثم تموت وتنبت بشكل محدود. أما النمو في الاقتصاد فقد أريد أن يكون له اتجاه خطي دائم الحياة ويقوم على ابتداع وهم ضرورة «الزيادة» في الإنتاج والاستهلاك من دون نهاية وبلا حدود. فماذا كانت النتيجة غير الكوارث؟
الزمن لن يفقد قيمته بالمطلق. إذا عرفنا أن كل تأخير يمكن أن يكون قاتلاً، لن نجد ما يشفع لفقدان معنى الوقت سوى التسليم بحتمية الموت.
الوضع في لبنان كان يمكن أن يكون أقل خطورة وكارثية لو انتبهنا أكثر إلى البيئة والطبيعة كقيمة تفاضلية. لم نكن نحتاج إلى الكثير من مشاريع «التنمية» على الطريقة الغربية. كانت الحاجة الحقيقية إلى سياسات أكثر تواضعاً في كل القطاعات: تطوير الطاقات المتجددة من المياه والشمس والهواء، الحفاظ على الزراعات البعلية والتقليدية وطرق تجفيفها وحفظها، تطوير وتوسيع سكك الحديد والنقل العام بدل إلغائها، اعتبار السياحة البيئية والاجتماعية واللامركزية الأنسب لبلد كلبنان، دعم الصناعات الحرفية الصغيرة والمتواضعة ودمجها في السياحة. كما أن حماية مقوّمات الطبيعة من سلامة الهواء والتربة والماء... كانت كفيلة بضمان الأمن البيئي والصحي وتخفيف فواتيرهما، إضافة إلى التركيز على الاقتصاد الحقيقي بدل اقتصاد السوق التنافسي…
قد لا يكون الأوان قد فات إذا اعتمدنا على مفهوم التواضع في المعالجات واعتماد السياسات البديلة، وهذا ما يمكن أن يغنينا عن الاستدانة من جديد.
قد تكون لأزمة لبنان «مميزات» تختلف قليلاً عن أزمات العصر الحديث. إلا أنها تشترك معها باعتبارها أزمة مستهلكين (بكسر اللام وفتحها) … إنها في الجوهر أزمة التأخر في معرفة معنى التواضع وأهميته. إلا أن المأساة الكُبرى أن التواضع وقول الحقيقة أو اكتشافها، كل ذلك لا يحصل عادة إلا في النهاية، أو على وشكها.