مرّ ربع قرن على اتفاقية التنوع البيولوجي (التي أبرمت عام 1992 وبدأ تنفيذها عام1993 )، ولا تزال الأنواع المعرضة للانقراض تتزايد دراماتيكياً، حسب التقارير المعتمدة والمصدقة من الأمم المتحدة نفسها. إلا أن أحداً لم يقم بمراجعة لهذه الاتفاقية ولا بقراءة نقدية لكيفية متابعتها من قبل الأمم المتحدة والدول الأطراف المصدقة عليها. ولا نظن أن مصر التي تتولى رئاسة مؤتمر التنوع البيولوجي في الفترة بين ٢٠١٨ وحتى ٢٠٢٠، قبل أن تتسلم الصين رئاسة المؤتمر منها، قادرة على القيام بهذه المهمة، خصوصاً أن وزيرة البيئة المصرية التي تهتم بإدارة هذا الاجتماع الأممي قد أوكلت هذه المهمة إلى جمعية مصرية لديها خبرة بمتابعة الاجتماعات وليس في مراجعة الاتفاقيات!من أهم العوائق التي حالت دون تطبيق أهم بنود هذه الاتفاقية، غير تضارب المصالح والاستثمارات المعروفة التي تبدأ بإنتاج الطاقة والتعدين ولا تنتهي بمصالح شركات الأدوية التي تستبيح بعض أنواع النباتات الطبية، بالإضافة إلى تمدد البنى التحتية ومتطلبات الصناعات على أنواعها، ما يؤدي إلى تدهور خطير في التربة العالمية وتهديد التنوع عامة... إن التوجهات العالمية ليست واحدة تجاه هذه القضية التي تُعَدّ من أخطر القضايا، لكونها تعنى ببقاء الأنواع المسؤولة عن ديمومة الحياة، ولا سيما النوع الإنساني.

انقسام على «المنبر»
أنشأت الأمم المتحدة منذ 6 سنوات تقريباً «المنبر الحكومي الدولي للعلوم والسياسات في مجال التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية» (يسمى اختصاراً IPBES)، مهمته أن يقدِّم المشورة العلمية في ما يخص إحدى أكثر مشكلات العالم تعقيدًا، وهي الفقدان المتسارع للنباتات والحيوانات على نحو متزايد. لكنّ انشقاق الصف في المجتمع البحثي يهدد بتقليص هذه الجهود المبذولة بأكملها.
وكما هو الحال في تغيّر المناخ، يُعَد البشرُ المُذْنِبين الرئيسيين في فقدان التنوّع الحيوي؛ فقد حَوَّل الناس نحو 50% من سطح الأرض من أجل الأنشطة البشرية. ويحذِّر الباحثون من أنْ يؤدي فقدان أنواع النباتات والحيوانات الناتج من ذلك إلى انقراض جماعي.
لم يتمكن بَعْد المنبرُ المعني بالتنوّع الحيوي (بدأ العمل فعلياً منذ 6 سنوات) من فرض نفسه على المجتمع العلمي، كمقدمة لتقديم المشورة العلمية الموثوقة لصناع القرار. وقد بدا هذا المنبر منقسماً على ذاته في أكثر من محطة.
أهم هذه الانقسامات، التي تظهر في المؤتمرات الدولية الشبيهة أيضاً، هي بين العلماء القادمين من بلدان الجنوب الأكثر فقراً، وعلماء دول الشمال، الأكثر ثراءً. وقد دخل إليهم في الفترة الأخيرة علماء الاجتماع والنفس والعلوم الإنسانية عامة الذين فرضوا أنفسهم بحق في الفترة الأخيرة، بحجة أنهم الأخبر في عادات وتقاليد ومعارف الشعوب الأصلية التي تُعَدّ الأحرص والأخبر ربما في حفظ التراث الزراعي والمعرفي بالأنواع وطرق المحافظة على استدامتها.
وتجدر الإشارة في هذا المجال، إلى أنه لطالما استُبعِد ممثلو الشعوب الأصلية غير المندمجين وغير المدجنين، لا لقلة معارفهم بعلوم العصر، بل لأنهم أظهروا أنهم لا يزالون يمثلون المعارضة الحقيقية الأخيرة للنظم الاقتصادية المهيمنة، ولا سيما كبريات الشركات العالمية التي استطاعت أن تدجن البرلمانات والحكومات والصروح الأكاديمية والمراكز البحثية والعلمية التي تمولها وتوجهها لإنتاج الأبحاث التي تلبي مصالحها… ولم يبقَ عصياً على توجهها غير بعض الشعوب الأصلية وممثليها الفعليين أو الفكريين.
لم يعد سراً القول إن معظم التقارير المنتجة والاتفاقيات ذات الصلة، لا تزال تخضع، حتى الآن، لقيادة العلماء ومناصري الحفاظ على البيئة من الدول المتقدمة، وهم أنفسهم المكلَّفون دراسة تناقص الأنواع وتقييمه!
لا شك في أن بعض التراجع قد حصل في هذا التوجه في الفترة الأخيرة حين اعترف بعض أبرز علماء بلدان الشمال بأن جهود الحفاظ على البيئة بحاجة إلى مزيد من الإسهامات من البلدان النامية، ومن الباحثين في مجالات العلوم الإنسانية وغيرها من التخصصات غير التجريبية، وكذلك من غير الأكاديميين، مثل المزارعين، والمواطنين العلماء، والشعوب الأصلية. إلا أن هذه الجهود لم تصل إلى مرحلة إعادة النظر ببنود الاتفاقية، ولا سيما لناحية قلب الأولويات وتأكيد مبادئ أساسية يجري تجاهلها، مثل «مبدأ الاحتياط» الذي ينص على أنه في حال وجود تهديد بحدوث خفض أو فقدان شديدين للتنوع البيولوجي، ينبغي ألّا يستعمل غياب اليقين العلمي الكامل سبباً لتأجيل اتخاذ التدابير لتجنب حدوث هذا التهديد أو الحد من آثاره، ما يعني عملياً، عند الشك في أن أي استثمار يمكن أن يؤدي إلى تهديد أي نوع من الأنواع، يجب وقفه احتياطاً، وإن لم تكتمل الأدلة العلمية على التهديد. مع العلم أن ترجمة هذا المبدأ الجوهري في الاتفاقية، يمكن أن يهدد الكثير من استثمارات الشركات الكبرى حول العالم. من هنا تأتي صعوبة تطبيق هذه الاتفاقية التي يمكن أن تطاول أي نوع من الاستثمارات في شتى أنواع الحقول والقطاعات الإنتاجية والاستخراجية.

بين الوطني والأممي
بين الصعوبات أيضاً، تضارب مهمة الحفاظ على الأنواع بين الوطني والعالمي. فما الذي يدفع العالم إلى الاهتمام بالضبع المرقط اللبناني أو بالمها العربي؟ ولماذا يشعر الصيني بأنه يفترض الحفاظ على النمر البنغالي الملكي الهندي، بينما لا يهتم الأخير بحيوان الباندا الصيني!؟
وكيف يمكن دولاً متقدمة مثل الاتحاد الأوروبي أن تقنعنا بأنها تموّل اتفاقية لحماية التنوع البيولوجي، بينما لا يزال بعض سكانها يفتخر بلبس فرو الحيوانات أو باقتناء العاج الذي يسبّب انقراض الفيلة في إفريقيا… ولو من طريق التهريب!
وكيف لخبراء الدول المتقدمة الذين تساهلوا وسبّبوا إضعاف الاتفاقيات الدولية المتعلقة بتنظيم الكائنات المُعدَّلة جينياً (وراثيّاً)، أو الذين استفادوا من تمويلات من أصحاب المنافع من بعض الأنواع من نباتات طبية أو عطرية أو غيرها، بسبب قوة جماعات الضغط المناصِرة للأعمال التجارية الزراعية في هذه الدول… أن يقنعونا بأن تقاريهم «مراجع» يفترض الاقتداء بها؟

تهديد الرفاهية أم الحياة؟
لم يضف «المنبر» الذي دفع به برنامج الأمم المتحدة للبيئة الكثير إلى المعركة والصراع مع المهددين للتنوع البيولوجي وإلى القضايا الجوهرية المهددة للنوع الإنساني. فقد نشر في وقت سابق من العام الجاري تقييمات للتنوع الحيوي في مناطق مختلفة، وتقريراً عن حالة تدهور الأراضي، خلص إلى نتيجة مفادها أن مثل هذه البيئات المتضررة تشكل تهديداً لرفاهية أكثر من ثلاثة مليارات شخص، في حين أن المخاوف، ليست أقل من تهديد النوع الإنساني بوجوده!
وبالرغم من نشر المنبر عام 2016 تقييماً عن تلقيح النباتات ألقى فيه الضوء على أن استخدام مبيدات الآفات الكيميائية قد أسهم في انخفاض أعداد النحل التي كانت تقوم بدور الملقح الفعال للمحاصيل، ما يعني انخفاضاً كبيراً فيها… إلا أنه أضعف الوضع والمخاطر حين قيّم هذه المحاصيل (التي تعتمد التلقيح من طريق الحيوانات) والتي تصل قيمتها السوقية إلى 577 مليار دولار (وفق أسعار عام 2015). هذا التقييم المالي أثار حفيظة كثيرين في البلدان النامية، الذين لا يقبلون تقييم فقدان الأنواع وتقييم هذا الفقدان بلغة المال، معتبرين أن هذه الرؤية للطبيعة «غربية» ولا تعني شيئاً بالنسبة إلى مفاهيم الاقتصاد البيئي الذي يعتبر أن في انقراض الأنواع خسائر لا تقدَّر بثمن.

«خدمات» النظم الإيكولوجية
ويتحفظ خبراء البلدان النامية المتعمقين في دراسة التنوع البيولوجي من خلفية فلسفية شرقية على مفهوم مثل «خدمات النظم البيئية»، وهي فكرة اكتسبت أهمية في عام 2001 عند بدء إجراء التقييم الدولي الكبير الأخير للتنوع الحيوي، وهو تقييم النظام البيئي للألفية. وخدمات النظم البيئية هي تلك الخصائص، أو الوظائف، أو العمليات البيئية التي تسهم، على نحو مباشر، أو غير مباشر في رفاهية الإنسان.
استخدم علماء البيئة اللغة الاقتصادية عن قصد، لأنها كانت وسيلة للتحدث إلى السياسيين وغيرهم من صنّاع السياسات بمصطلحات مألوفة، حسبما يردد معظمهم. أما بالنسبة إلى الإيكولوجيين العميقين، فلا معنى لتحديد قيمة مالية لغابة، أو نهر، لأنه جزء من كيان كامل. ولا معنى للبحث عن قيمة اقتصادية أو تجارية لنوع إذا كان انقراضه يسبّب انقراض أنواع أخرى إلى ما لا نهاية، أو إلى نهاية النوع الإنساني نفسه!