القاهرة | قبل انتفاضة 25 كانون الثاني 2011 في مصر، لم يكن أقصى طموح للواء عبد الفتاح السيسي، مدير المخابرات العسكرية آنذاك، والمقرّب من وزير الدفاع، المشير محمد حسين طنطاوي، سوى الاستمرار في منصبه لأطول فترة ممكنة، ثمّ التقاعد بالعمل في إحدى السفارات المصرية في الخارج، أو بترقية استثنائية تمنحه معاشاً يوفّر له ولأبنائه تقديراً مناسباً لنهاية خدمته العسكرية. لكنّ الانتفاضة التي قلبت الموازين داخل جميع المؤسّسات، بما فيها المؤسّسة العسكرية ذاتها، صعدت باللواء إلى رتبة فريق أوّل لقيادة وزارة الدفاع، بعد أقلّ من عام ونصف عام انخرط خلالها الرجل في مفاوضات مع التيّارات السياسية المختلفة، بما فيها «الإخوان المسلمون»، مُقدِّماً نفسه باعتباره رجل المرحلة عسكرياً. السيسي، الذي تحالَف مع القوى المدنية للإطاحة بـ«الإخوان» من الحُكم في حزيران 2013، عبر دعْم الجيش التظاهرات ضدّ الجماعة عقب شهور فقط من تولّيها السلطة، هو نفسه الذي نفّذ إجراءات اقتصادية تفوق بعشرات المرّات ما قامت به الجماعة فترة تولّيها الحكم، بدايةً من تعديل سعر الصرف وصولاً إلى رفع الدعم بشكل كبير عن قطاعات واسعة.ومع حلول اليوم الذكرى الحادية عشرة لانتفاضة 2011، وفي مواجهة نصّ دستوري صريح باعتبار «25 يناير» ثورة، يسعى نظام السيسي لترسيخ فكرة أن ما حدث في ذلك اليوم لم يكن إلّا مؤامرة لا يراها غيره، ويَعتبر إرهاصاتها بمثابة جرس إنذار لن يسمح بتكراره، سواءً بالتصدّي للتظاهرات بشكل مباشر ووأدها سريعاً، أو بإخفاء الجرائم التي تُرتَكب من قِبَل ضباط الجيش أو الشرطة. ويوماً بعد آخر، يستعيد رجال الشرطة صلاحياتهم التي كانت ممنوحة لهم قبل تلك الانتفاضة، حيث ساد يومها البطش والعنف في مواجهة المدنيين، وهذا كلّه لم يكن ليحصل لولا دعم السيسي السياسي لهم، وتغاضيه عن ارتكاباتهم، وإيقاف المحاكمات بحقّ قياداتهم، وحصْر محاسبتهم العلنية في أضيق الحدود، واستخدام صلاحيات الرئيس للعفوّ عنهم بل ومكافأتهم أحياناً. وتأكيداً لما تَقدّم، جاءت الأحكام بالبراءة لقيادات الشرطة كافة في جميع قضايا قتل المتظاهرين في انتفاضة 2011، ليتحوّل رجال الأمن من رموز للفساد والبطش إلى مناضلين دافعوا عن أماكن عملهم، فيما المتظاهرون الذين دفعوا حياتهم ثمناً للإطاحة بنظام حسني مبارك، تخلّى عنهم النظام الحالي تدريجياً، بل وباتوا جزءاً من مؤامرة كبرى يدأب السيسي على التحدُّث عنها.
وتحاول بعض الأصوات المعتدلة التذكير دوماً بأهمية «ثورة يناير» ودورها، لكنّ النظام لا يرى «ثورة» إلّا في ما حصل في 30 حزيران 2013، حيث استعاد العسكر السلطة رسمياً، عبر الرئيس الانتقالي، عدلي منصور، رئيس المحكمة الدستورية آنذاك، والذي مهّد الطريق للسيسي ليصبح رئيساً، ومنَحه حصانة قضائية برتبة مشير حتى قبل استقالته من منصبه وزيراً للدفاع. المفارقة بعد كلّ هذه السنوات، أن حُلم التوريث السياسي الذي كان مبارك يأمل بتحقيقه ليكون ابنه جمال رئيساً للبلاد مِن بَعده، عاد ليراود السيسي، الذي يعمل، على عكس مبارك، على توريث نجله محمود من خلال المؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها. وإذ يدرك الرئيس المعادلة السياسية والعسكرية جيداً، فهو يسعى لتلافي جميع الأخطاء التي وقَع فيها سابقوه، عبر تكوين مراكز قوى من الموالين له، وصولاً إلى تعيين شخصيات في مناصب قيادية، من الصنف الذي لا يجادل ولا يناقش وينفّذ الأوامر حتى لو كانت خاطئة. كذلك، يبقى التحرّك السريع لوأْد أيّ تمرّد شعبي أو حالة غضب جماهيري، سلاحَ النظام الوحيد حتى الآن للحفاظ على استقراره، مع ضمان بقاء قيادات المجلس العسكري طوْع قرارات الرئيس، عبر التغيير المستمرّ للقيادات، والامتيازات الاستثنائية التي يحصلون عليها، بداية من مكافآت نهاية الخدمة، وصولاً إلى إلحاق أقاربهم بالعمل في الجهات السيادية، وتحقيق أرباح مالية عبر العمل في مشروعات الجيش الذي أصبح يتحكّم بالاقتصاد المصري.
في «25 يناير»، خرج المصريون رافعين شعارات تطالب بـ«العيش والحرية والعدالة الاجتماعية». وبعد 11 عاماً من ذلك، يرغب السيسي، اليوم، في رفع كلفة رغيف العيش المدعوم، فيما الحرية لم يَعُد لها من وجود في ظلّ قمع الأصوات المعارِضة، والزجّ بأصحابها في السجون أو إجبارهم على السفر والهجرة، أمّا العدالة الاجتماعية فلا تزال بعيدة المنال مع تزايد أعداد الفقراء، واستمرار تدهور قيمة الحدّ الأدنى للأجور على رغم رفْعها نظرياً، وتزايد نفوذ الجيش وأرباحه المالية.