تحوّلت حوادث القطارات في مصر منذ زمن طويل إلى جزء أصيل من الثقافة المصرية، فلا يمر عام إلا وتسيل فيه دماء المصريين ــ قد تختلف الأسباب وتتعدد ويبقى النزيف مستمراً ــ حتى ترسّخت داخلهم مشاعر متناقضة ما بين يأس ومسؤولية؛ يأس من الإصلاح ومسؤولية بعضهم تجاه بعض كجزء من التكاتف الشعبي مقابل ما يواجهونه من كوارث متتالية.
«من يعلم؟»
شرحت هيئة سكك حديد مصر تفاصيل الحادث الأخير الذي وقع على خط الأقصر ــ الاسكندرية، في بيان، ثم وجّهت أصابع الاتهام إلى مجهولين قائلة إنه «تم فتح بلف الخطر (مكابح الطوارئ) بمعرفة مجهولين لبعض عربات القطار الرقم 157 مميز المتجه من الأقصر إلى الاسكندرية، ما بين محطتي المراغة وطهطا، وعليه توقف القطار».
في تلك اللحظات، انقسم أهل مدينة طهطا والقرى المجاورة إلى قسمين؛ الأول يتزاحم حول بنوك الدم للتبرّع وإنقاذ أرواح أشقائه، والثاني يساعد في نقل المصابين وانتشال الضحايا. وبدا مشهد المواطنين في بنك الدم وحول القطار مثيراً للتأمل، في بلد لا يعرف التعامل السريع مع كوارث كهذه.
بعد الحادث بساعات، خرج رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، ليقول إنه «كمواطن، وكذلك الدولة، مثل شأن كل المصريين، يتساءلون إلى متى ستستمر الحوادث الخاصة بالسكة الحديد». حفّز هذا التصريح موجة من السخرية، تقاطعت فيها أسئلة المصريين عند سؤال واحد: «إذا كان رئيس الوزراء لا يعلم فمن يعلم؟».
قد يبدو تصريح رئيس الوزراء «أكثر منطقية» حين نرى تفاصيل المشهد بوضوح؛ بحسب الإحصائية التي أجرتها هيئة السكة الحديد بالتعاون مع الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (عام 2017)، بلغ عدد حوادث القطارات في مصر 12236 حادثاً بين عامي 2006 و2016.
رغم هذا الرقم الكبير للحوادث، رفض رئيس الجمهورية الأشهر في عام صدور التقرير نفسه، إجراء صيانة لشبكة السكك الحديد، وذهب إلى حساب أرباح الكلف الافتراضية في حال أودعت المصارف؛ وقال: «تقلّي أنا هصرف 10 مليار علشان أكهرب، وأعمل مَيْكنة، الـ10 مليار دول لو أنا حطيتهم في البنك لو خدت عليهم فايدة 10% يعني مليار جنيه، ولو بالوضع الجديد اللي موجود دلوقتي بسعر الفائدة يبقى 2 مليار جنيه». ثم بعد الانتقاد الذي طاله خرج ليصرّح مرة أخرى أن «إصلاح السكة الحديدية يحتاج إلى أكثر من 260 مليار جنيه مصري، وهو مبلغ غير متوافر ولا تستطيع الدولة تحمله».



ضرائب على حساب الدم
ادعاءات الدولة المتكررة حول فساد منظومة سكك الحديد وغياب القدرة على إصلاحها لعدم توافر المال، تنافي حقيقة القروض المتكررة التي أخذتها الدولة من البنك الدولي (يعدّ المساهم الأكبر في إعادة إصلاح وبناء السكك الحديدية حول العالم). ففي العام 2009 اقترضت مصر 270 مليون دولار بهدف «إصلاح السكك الحديدية»، ثم في العام 2017 (أيضاً)، اقترضت البلاد 645 مليون دولار من البنك الدولي بهدف إصلاح المنظومة، لكن خطاب النظام المصري بقي على ادعاءاته نفسها، بينما كانت تدفع فوائد القروض من الضرائب المفروضة على المصريين.
بعد عدة أشهر من تصريحات الرئيس السيسي، وقع الحادث المفزع الذي لم يرحل من ذاكرة العالم حين احترق 22 مصرياً أحياءً على أرصفة محطة رمسيس في نهاية شباط 2019، ليقدّم حينها وزير النقل هشام عرفات استقالته، ويكلّف رئيس الهيئة الهندسية في الجيش، كامل الوزير، بإدارة قطاع النقل والمواصلات. هلّل بعدها الإعلام المصري لتلك «الخطوة الكبيرة»، مروّجين أنّ وجود وزير بخلفية عسكرية هو الحل الأنسب لكل المشاكل، وبالأخص كامل الوزير الذي يعتبرونه رجل الرئيس المؤتمن.



لم يغيّر الوزير شيئاً يُذكر في سياق الإصلاح المزعوم للمنظومة، رغم أنه أتى بتكليف من الرئيس لإصلاحها. لم يمر وقت طويل، حتى خرج الوزير ليكشف عن مشروع «عملاق» وافقت الحكومة المصرية عليه في منتصف كانون الثاني الماضي، لإنشاء منظومة قطار كهربائي سريع، لربط عدد من المدن والمنتجعات السياحية بالعاصمة الإدارية الجديدة، التي تخدم طبقات المجتمع الأكثر ثراءً في مصر. وأعلنت الدولة أن تكلفة المشروع الذي ستنفذه شركة «سيمنز» الألمانية يقدر بـ360 مليار جنيه مصري، أي ما يعادل 23 مليار دولار. هو الرقم الذي دفع الجميع إلى التساؤل، أليس من الأفضل إصلاح منظومة سكك الحديد القائمة قبل الشروع فى إنشاء أخرى؟
لم تلتزم الدولة المصرية بإجراء الإصلاحات التي على أساسها اقترضت الأموال، حتى فى وجود آلاف الحوادث و الضحايا، مخالفة حتى الشروط والقيود الموضوعة من البنك الدولي؛ إذ يؤكد الأخير من خلال دراسة منشورة في العام 2017 أن «توجهات وتطلعات البنك الدولي في تحقيق التغيير في منظومات السكك الحديدية تفوق ما لدى البلدان صاحبة تلك المنظومات».
والحقيقة أن الأنظمة المصرية المتعاقبة لم يكن لديها مشكلة تمويل، لذلك حين يتساءل رئيس الوزراء متى ستنتهي الحوادث؟ هو بكل تأكيد يعرف كيف ومتى يمكن أن تنتهي.