القاهرة | لم تعد المحاولات لتجميل النظام في مصر ووصفه بالديمقراطي تحمل أدنى حدّ من المنطق، فالنظام الذي يترأّسه المشير عبد الفتاح السيسي القادم من وزارة الدفاع، وقبلها «المخابرات الحربية»، لم يعد يسعى إلى الاحتفاظ بمنصب رئيس الجمهورية للقادة العسكريين فحسب، بل يريد ترسيخ العسكر في جميع مناصب الدولة، وهو نهج تجري قوننته بإضفاء المشروعية عليه عبر قوانين يقرّها مجلس النواب. القصة تعود إلى السنوات الأولى من وصول السيسي إلى الرئاسة، حين عمد إلى التوسّع في تعيين قادة الجيش والشرطة المتقاعدين في مناصب قيادية مختلفة للشركات والمؤسسات الحكومية، ثم توسّع في تعيين الوزراء من العسكريين وكذلك المحافظين على نحو أكبر من أيّ نظام سابق، كما وضع بعض العسكريين على رأس هيئات لم يعملوا فيها من قبل، مثل اللواء حمدي بدين الذي عُين رئيساً لـ«هيئة الثروة السمكية»، واللواء أحمد زكي عابدين رئيساً للعاصمة الإدارية الجديدة.بخلاف التوسيع الأخير لسلطة رئيس الجمهورية في اختيار رؤساء الهيئات القضائية وجميع المسؤولين عن مختلف الجهات، من دون مساءلة أو مراجعة باستثناء موافقة البرلمان على اختيار الوزراء وهي شكلية أصلاً، فإن ما استجدّ هو رغبة النظام في عسكرة حتى الوظائف المدنية وإفراغها من مضمونها، وذلك بتعيين عسكريين يكونون مراقبين على المدنيين، فضلاً عن تعديل مشاركة العسكريين في الحياة السياسية باشتراط موافقة «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» على ترشيح أيّ عسكري في أيّ انتخابات! واستبقت الأجهزة المعنية إجراء الانتخابات الثلاثة المقرّرة في غضون عامين (انتخابات مجلس الشيوخ التي يفتح باب الترشيح فيها السبت المقبل، والبرلمانية المقرّرة الخريف المقبل، والمحليات المتوقّع إجراؤها العام المقبل) بإقرار تعديلات جوهرية على قوانين أبرزها القانون رقم 1968 بشأن القيادة والسيطرة على شؤون الدفاع عن الدولة والقوات المسلحة وقانون إنشاء «المجلس الأعلى».
لن يستطيع ضابط أو عسكري متقاعد الترشح لأيّ انتخابات إلا بموافقة الرئيس


تنصّ التعديلات الجديدة على منع ترشح الضباط، سواءٌ الموجودون في الخدمة أو من انتهت خدمتهم، لانتخابات رئاسة الجمهورية أو المجالس النيابية أو المحلية إلا بعد موافقة «المجلس الأعلى»، وهو ما فسره البرلمان بـ«استحداث ضوابط تواكب التطور التكنولوجي في منظومة العمل في القوات المسلحة، بما يناسب طبيعة الحرب الحديثة»! وإن رفض المجلس ترشيح العسكريين، يحق للمتضرر أن يطعن أمام «اللجنة القضائية العليا لضباط القوات المسلحة»، على أن يكون ذلك خلال 30 يوماً من تاريخ إبلاغه الرفض، كما يكون قرارها في الطعن نهائياً ولا يجوز الطعن عليه أو المطالبة بإلغائه أمام أي جهة أو هيئة. هذه التعديلات تعني أنه إذا أراد عسكري سابق أن يتقدم إلى الرئاسيات، سيتعين عليه الحصول على موافقة المجلس الذي يترأسه رئيس الجمهورية، علماً بأن هذه الموافقة كانت السبب في استبعاد الفريق سامي عنان من الترشح لمنافسة الرئيس الحالي، إذ كانت تقتصر على أعضاء «المجلس العسكري» الذين أداروا شؤون البلاد بعد تنحي مبارك في عام 2011 وبنص استثنائي تم تمريره آنذاك ولم يعلن إلا مع قرار عنان مواجهة السيسي، الذي انتهى بقائد الأركان الأسبق في السجن لعام ونصف عام قبل أن يصدر إخلاء سبيل قبل أن يتمم حكم الحبس عشر سنوات.
وضمن سعي السيسي لاقتناص مزيد من الصلاحيات، عُدلت بعض أحكام القانون الخاص بإنشاء «المجلس الأعلى للقوات المسلحة»، فأتيح لرئيس الجمهورية ضمّ أعضاء إلى المجلس من قيادات الجيش بخلاف أعضائه، وهو استثناء سيتيح له ضمّ من يريد، على نحو قد يغير في طبيعة قرارات المجلس الذي أصدر القانون الخاص به الرئيس المؤقت السابق عدلي منصور. وثمة قوانين أخرى جرى تعديلها لتتسع عملية العسكرة في صورة مدنية، وذلك بوضع جنرال رقيب على كل محافظ، وهي الخطوة التي قوننها مجلس النواب بالموافقة على تعديل القانون الخاص بمنظمات الدفاع الشعبي الصادر عام 1968 لتحوّل الحاكم العسكري في كل محافظة إلى رقيب على المحافظ وتوسع صلاحياته لتكون أكبر من المحافظ في بعضها، خاصة في ما يتعلق بالتواصل مع القادة العسكريين.
برغم الدور الشرفي للحاكم العسكري في المحافظات، منحته التعديلات الجديدة أدواراً أخرى في مقدمتها المتابعة الميدانية والدورية لخدمات المواطنين، إضافة إلى التواصل مع الأحزاب والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني والتنسيق مع الجهات التعليمية، ومراقبة المشروعات القومية وغيرها من الأمور التي تقع في اختصاص المحافظ. ويُعين الحاكم العسكري وزير الدفاع مع أحقيته في تعيين عدد كافٍ من المساعدين، وهؤلاء يتولى تعيينهم منفرداً وزير الدفاع تحت مسمّى المستشار العسكري ومساعديه، في خطوة ستجعل العسكريين الفاعلين الحقيقيين والمؤثرين في القرار في المدن المختلفة. صحيح أن دورهم تزايد منذ رئاسة السيسي لدرجة إقصاء بعض المحافظين من مناصبهم بناءً على التقارير التي كتبها المستشارون العسكريون، لكن الوضع مختلف هذه المرة، فإضفاء الصبغة القانونية على الاتفاق يعكس بوضوح التوسع المعلن في صلاحياتهم وأحقيتهم في الرقابة والتفتيش على مختلف الهيئات من دون قيود.