تَأخّر محمد حسني مبارك في استيعاب ما حدث في 25/1/2011، بعد 30 سنة من حكمه. التقارير الأمنية التي كانت تُرفع إلى الرجل جافَتِ الصواب، والرئيس الذي تجاوز عامه الثمانين آنذاك بدا عاجزاً عن اتخاذ «قرار حاسم»، ولذا بدت ردود فعله مفارِقة لتحرّكات الشارع، وخاصة في ظلّ الصراع بين جناحَي السلطة في تلك الفترة: الحرس القديم بزعامة الأمين العام لـ«الحزب الوطني» الحاكم (المحلول) صفوت الشريف، والحرس الجديد بقيادة أمين التنظيم في الحزب أحمد عز، المقرّب من ابن الرئيس، جمال.عملياً، لم يدرك مبارك حجم ما كان يحدث في الشارع إلا عقب ثلاثة أيام أنهك خلالها القوات الأمنية في قمع المتظاهرين والقبض على المئات منهم. حينئذ، بدأ يتراجع، محاوِلاً اللعب على عواطف الجماهير بخطاب في بداية شباط/ فبراير، تَعهّد فيه بألّا يترشّح مجدّداً بعد ولايته التي كانت ستنتهي في أيلول/ سبتمبر 2011، ولا أيٌّ من أبنائه. لكن هذه المحاولة لم تفلح في استرضاء المتظاهرين، وخاصة مع تخوّف الأخيرين من الملاحقات الأمنية عقب العودة إلى منازلهم. المحاولات الأخرى تَمثّلت في إجراءات سريعة كتوقيف متّهمين بالفساد من الحزب الحاكم، وإقصاء وزير الداخلية، وكذلك رئيس الحكومة، والاستعانة بمدير المخابرات اللواء الراحل عمر سليمان ليكون نائباً للرئيس، والفريق أحمد شفيق ليكون رئيساً للحكومة... لكن «حادثة الجمل» في الثاني من شباط/ فبراير 2011، والتأخر في الاستجابة لمطالب الشارع الذي كان ينادي أولاً بـ«العيش والحرية والعدالة الاجتماعية»، جعلا المطالب تتحوّل إلى إسقاط النظام ومحاسبة رموزه الذين دخل معظمهم السجن خلال مدة وجيزة.
ممارسات القمع والأخطاء منعت المتظاهرين من تصديقه


أيامَ الثورة، خاطب مبارك المواطنين ثلاث مرات، لكن الرابعة كانت عبر بيان سليمان الذي أعلن تنحّي الرئيس، وهو البيان الذي أذيع أثناء انتقال مبارك مع عائلته بطائرة مروحية من قصر الاتحادية في مصر الجديدة إلى القصور الرئاسية في شرم الشيخ، لتكون آخر مرة يرى فيها وعائلته القصر بعد ثلاثة عقود من الإقامة فيه. صحيح أنه في خطاباته أظهر استجابة واضحة لمطالب الشباب، لكن الممارسات القمعية والأخطاء السابقة للنظام منعت تصديق وعوده، بما فيها تلك المتصلة بمرحلة انتقالية تتمّ فيها عملية تسليم وتسلّم للسلطة في غضون أقلّ من سبعة أشهر. هكذا، لم يجد الرجل «خيراً» من وزير دفاعه، المشير محمد حسين طنطاوي، الطاعن في السن، ليُسلّمه مقاليد السلطة، عازياً اختيار الرجل الذي خدم معه عقدين إلى «أمانته»، ومانحاً إياه رتبة لا يحصل عليها في العسكر إلا قليلون، بعدما كان وضعه على رأس الجيش الذي كان من المستحيل أن يصل إليه نوبيون (كطنطاوي). قدّم طنطاوي، لاحقاً، إبان تولّيه المرحلة الانتقالية، مبارك إلى المحاكمة، علماً بأنه لم يكن أمامه سوى هذا الخيار، في ظلّ ضغوط الشارع عليه. لكنه في شهادته أمام المحكمة، حرص على تبرئة مبارك من أيّ اتهامات، كما ساهم بطريقة أو بأخرى في إخفاء المستندات التي يمكن أن تدين الرئيس المخلوع وأبناءه، بل حافظ على مكانة زوجته سوزان التي لم تَمثُل في أيّ محاكمة، على رغم اتهامات لها في أكثر من قضية أُغلق التحقيق فيها سريعاً، ومن بينها تسويات مالية.
على رغم أن «ثورة يناير» اندلعت على نحو مفاجئ وصادم لمبارك ونظامه، إلا أن الأخير سبق له أن تجاهل إرهاصاتها التي كانت قد بدأت بالظهور منذ تحرّك المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، محمد البرادعي، لجمع توكيلات من أجل التغيير، باستغلال الانفتاح الإعلامي والحريات الشكلية الممنوحة آنذاك من قِبَل المخلوع، لتكون «مساحة الحريات» تلك هي القشّة التي قصمت ظهر النظام. ولعلّ هذه هي العبرة الأساسية التي استخلصها عبد الفتاح السيسي، ليبقى ملف الحريات، ومعه ملفات أخرى مثل الإعلام والإنتاج الفني، في عهدة المخابرات حصراً.