القاهرة | قبل 110 أعوام، أنشأت الحكومة في مصر قطاراً أرضياً سريعاً يصل إلى حيّ مصر الجديدة، الذي عمّره نجل أول رئيس وزراء للبلد، هو نوبار باشا، وصاحب بنك «بروكسل»، البلجيكي إدوارد إمبان. اليوم، في عام 2020، تتغيّر ملامح الحيّ الذي يحتفل بمرور 115 عاماً على إنشائه، بسبب خطط «التطوير» التي تنفذها السلطات بتعليمات مباشرة من الرئيس عبد الفتاح السيسي. صحيح أن هذه الخطط توشك على الانتهاء، وأن الطرق المكسّرة بفعل المعدّات يُعاد رصفها لتسيير حركة المرور، لكنّ ملامح الحيّ التي يعرفها أهله والمصريون تَغيّرت كلياً.الحيّ الهادئ، الذي يقع فيه المقرّ الرئيس للحكم (قصر الاتحادية)، كان القطار الأرضي يصله ببقية مناطق العاصمة، على رغم أن غالبية خطوطه توقفت قبل سنوات بسبب إهمال صيانتها، إلى درجة دفعت الحكومة إلى اتخاذ قرار بإيقاف تشغيله كاملاً، وتوسيع الطرق للسيارات على حساب مساراته لحلّ أزمة المرور. ولم يقتصر «التطوير» الأخير على إزالة «الترام»، الذي على رغم إهماله المتعمّد شكّل وسيلة مفضّلة لدى سكان الحيّ التاريخي للتنقل إلى جانب سياراتهم، بل امتدّ لتغيير ملامح المنطقة كلياً، عبر أكبر خطة لإزالة الأشجار الكثيفة منها، وإنشاء عدد من الجسور العلوية التي جعلتها أكثر ازدحاماً وصخباً.
هدفُ «التطوير» تحويل الحيّ إلى ممر صوب العاصمة الإدارية الجديدة


هكذا، بين ليلة وضحاها، وجد سكان الشوارع الرئيسة في «مصر الجديدة» شرفات منازلهم تطلّ على جسور علوية، والأشجار تُقتلَع من جذورها. الملامح التاريخية للحيّ تندثر بتعليمات رئاسية في عملية لم تستغرق سوى ثلاثة أشهر، علماً أن الجسور المبنيّة والطرق الموسّعة لا تراعي سلامة القاطنين، بل إن الطرق لم تعد صالحة لمرور السكان، إلى درجة أن بعضهم بات يستقلّ سيارته من ناحية إلى أخرى بعدما زادت السرعة المسموح بها للسيارات. مع ذلك، لا تفتأ الحكومة تدافع عن «التطوير» الذي يتابعه السيسي دورياً، بعدما عمدت وزارة البيئة والهيئة الهندسية (الجهة المكلّفة التنفيذ) إلى استيراد معدّات تُستخدم للمرة الأولى في مصر كي تقتلع الأشجار من جذورها وتزرعها في مكان آخر. لكن هذه التقنية لم تُستخدَم في إزالة جميع الأشجار، ليبدو وكأن خطوة الحكومة استهدفت طمأنة الأهالي إلى مراعاة البيئة ليس إلا.
أما الرئيس، فيدرك حجم غضب سكان «مصر الجديدة» من التطوير الذي محا الطبيعة التراثية للحيّ، الذي احتفظ بخصوصيته على مدار عقود، ليس لوجود مقرّ الحكم ومنزل الرئيس فيه فقط، بل لأنه من الأحياء الهادئة حتى مع ازدحامه بالسكان وبناء عقارات حديثة فيه بدلاً من القديمة التي تهدّمت بفعل الزمن. رغم ذلك، حافظت العقارات الجديدة على معايير هندسية محدّدة، ليكون هذا الحيّ واحداً من المناطق القليلة التي لم تتضرّر من مراحل الفوضى في السنوات العشر الماضية. تطوير «مصر الجديدة» لم يكن مصادفة، فالدافع هو تسهيل الوصول إلى العاصمة الإدارية الجديدة للقادمين من وسط القاهرة تمهيداً لنقل الوزارات والعاملين في الحكومة إليها اعتباراً من النصف الثاني من العام الجاري وفق الخطة الموضوعة. وهو ما يعكس الرغبة في تحويل الحيّ، الذي استمر مقرّاً للحكم عقوداً، ليكون طريقاً إلى مقرّ الحكم الجديد في تلك العاصمة، مع انتقال السيسي ونظامه إليها تدريجياً.