منذ خمس سنوات، يتعهد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، تحسينَ الأوضاع الصحية لمواطنيه. هذا «التحسين»، وإن حدث على نحو لم يشعر به المرضى أو الأطباء على حدّ سواء، يبقى الإطارُ القانوني والتشريعي المنظِّم له هو الأهم، وخاصة أن الأطباء الذين حصلوا على إجازات من دون مرتب، أو قدّموا استقالات من أجل العمل في المستشفيات الخاصة والسفر إلى الخارج، قاربت أعدادهم في آخر عامين الآلاف، في ظلّ انخفاض مستوى الرواتب بصورة كبيرة، والنقص الحادّ في المستلزمات الطبية.في كانون الثاني/ يناير 2018، أي بعد نحو عامين من المفاوضات والمناقشات، أقرّ مجلس النواب مشروع قانون التأمين الصحي الشامل، وهو القانون الرقم 2 لسنة 2018، ليصدّق عليه السيسي بعدها بأيام قليلة، وتَصْدر لائحته التنفيذية عقب ذلك بخمسة أشهر ويصير واجب النفاذ، إلا أنه لمعوّقات إدارية وتنسيقية لم يدخل حيز التنفيذ كما خُطّط له. كان يفترض أن يُطبَّق القانون في أنحاء الجمهورية كافة بحلول 2032 تدريجياً، وأن يبدأ تنفيذه من يوليو/ تموز الماضي في محافظة بور سعيد، وبعدها باقي مدن القناة وشمال سيناء وجنوبها، إلى أن تدخل باقي محافظات الجمهورية تباعاً وفق جدول زمني تم تحديده بناءً على معايير مرتبطة بالسكان، وقاعدة البيانات المتوفرة عن كل مدينة.
لكن ذلك لم يتمّ، بل إن وزيرة الصحة، هالة زايد، أطلقت تصريحاً في البرلمان أكدت فيه استحالة تطبيق المشروع الذي عقدت بسببه عشرات اللقاءات مع الرئيس، وذلك من دون توفير ما يقارب مليار دولار إضافية لموازنة الوزارة، وهو ما رفضته «المالية» بسبب فقدان السيولة في موازنة الدولة، الأمر الذي دفع زايد إلى المطالبة بتعديلات على القانون من أجل إمكانية تنفيذه، على أن تعاد جدولة المراحل والمدن. وتعكس تصريحات الوزيرة واقعاً يخالف كلام السيسي المستمر عن اختزال مدة التنفيذ لتكون 7 أو 8 سنوات بدلاً من 15، لكن حتى خطة الـ 15 عاماً التي وضعها البرلمان ووافقت عليها الحكومة تبدو سراباً. فبخلاف التوقف عن التطرّق إلى المشروع إعلامياً، تحدث الرئيس أكثر من مرة عن عجز الدولة عن تجديد المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية وتزويدها بالمستلزمات الطبية لإنجاح المشروع.
حتى التطبيق التدريجي زمانياً ومكانياً لم يفلح في موضعه الأوّل


ولعلّ تصريحات زايد حول أسباب تعطّل تعديلات التأمين الصحي، تستهدف التبرير المسبق للإخفاق المرتقب للقانون ككل، مع أن الدولة سارعت بعد إقراره إلى بدء تحصيل الرسوم الخاصة به من مصادر متنوعة، كضرائب الطرق وعلب السجائر، وهي تُطبَّق فعلياً منذ بداية العام الماضي ويؤمل تحصيلها بانتظام لمصلحة خزانة الدولة التي أصبحت تكتفي بنظام العمل الحالي القائم على مستشفيات تعاني نقصاً حادّاً في جميع المستلزمات، بما فيها الأدوية التي تباع بأسعار تجارية حرة، فيما لا تتوافر أدوية أخرى مهمة للأمراض المزمنة.
و«التأمين الشامل» منظومة أُسِّست في عهد الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، لضمان تلقّي جميع المواطنين العلاج بالمجان، لكن المنظومة عانت مشكلات مرتبطة بالتمويل وغيرها من التفاصيل. وكان الهدف الرئيس من التعديلات الأخيرة إصلاح ذلك الخلل الذي حوّل التأمين في آخر عقدين إلى إطار شكلي غير قادر على علاج المواطنين. واعتمد القانون على الفصل بين التمويل وتقديم الخدمة وتقويمها، بإنشاء ثلاث هيئات: الأولى مرتبطة بإدارة الخدمة هي «الهيئة العامة للتأمين الصحي الشامل»، فيما تقوم «الهيئة العامة للرعاية الصحية» بتقديمها، ويتم التقويم وفق معايير محددة عبر «الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية»، مع الأخذ في الاعتبار أحقية الجهات الثلاث في اتخاذ القرارات اللازمة ضمن نطاق صلاحياتها من دون الرجوع إلى «الصحة». وفي ما يتصل بالتمويل، اعتمد القانون على عدد من الجهات ليضمن استمراره مع تخفيف العبء عن موازنة الدولة، على أن تسدّد الأخيرة نسبة الاشتراك عن المواطن غير القادر على سداد اشتراكه، علماً بأن هناك نسباً تُخصم من العمال بواقع 4% شهرياً في بعض المهن، بالإضافة إلى رسوم إضافية فُرضت على الطرق السريعة والسجائر وبعض المنتجات، على أن يحق للجهات المختصة استثمار الأموال المُحصَّلة لتعظيم العائد.
الواضح أن الدولة لا ترغب في إلزام نفسها بموعد جديد لا يتم تحقيقه، وسط توقعات بإجراء تعديلات على القانون قبل تطبيقه حتى يكون واقعياً وقابلاً للتنفيذ. لكن حتى الآن ،ترجئ وزيرة الصحة التطبيق حتى إشعار آخر، وأيضاً من دون أن تحدد مواعيد للتطبيق المحدود على بور سعيد. ورغم زيارتها المدينة مرات عدة في الشهور الأخيرة، فإن التجهيزات لم تنتهِ في المستشفيات الحكومية والوحدات الصحية. وتقول الوزارة إنها تخشى عجزاً مالياً في تطبيق المشروع، ولا سيما مع توقعات بمحاولات للتحايل على تسديد الرسوم، بالإضافة إلى إشكالية في آلية التعامل مع الأفراد في المستشفيات الخاصة، حيث هناك مساحة للتلاعب، فضلاً عن المحاولات المستمرة لاحتواء غضب الأطباء على عدم زيادة رواتبهم.
بنظرة عامة، يبدو العجز عن تطبيق التأمين الجديد جزءاً من العجز في المنظومة الطبية عامة، على الرغم من أن وزارة الصحة أعلنت أن إقرار القانون سيؤدي إلى نقلة نوعية في رواتب الأطباء عند التطبيق رسمياً، ليصل متوسط الرواتب الجديدة لأطباء الأسرة إلى 30 ألف جنيه (1 دولار = 18 جنيهاً)، لكن هذا الأمر أمامه على الأقل سنوات حتى يصير واقعاً. وإلى جانب تواصل معاناة الأطباء بسبب أجورهم الزهيدة، ولا سيما عند بداية التخرّج، إذ لا تتجاوز 140 دولاراً مع عمل يومي يزيد على 12 ساعة، ثمة عجز عن تمويل المستشفيات وتأهيلها بصورة جيدة، فيما تغيب الرقابة الفعّالة ويستمر إهدار الموارد وتتتابع الأخطاء الطبية الكارثية. وفي حين تبدو محاولات تطبيق المشروع مجرد آمال، يسكت البرلمان الذي أقرّ القانون انتظاراً لوعود الحكومة بالتطبيق القريب، إذ ينشغل النواب بقوانين الانتخابات وغيرها لإرضاء النظام، لكنهم لا يتابعون هذا القانون الذي يأمل المواطنون أن ينهي معاناتهم مع أسعار الخدمات الطبية الخاصة التي لم تعد حتى في متناول ذوي الدخل المتوسط.