القاهرة | لم يكن إعلان الكنيسة القبطية في مصر عن مقتل الأنبا أبيفانيوس داخل دير أبو مقار سوى بداية لخروج صراعات كنسية تاريخية إلى العلن. وعلى رغم المحاولات التي فرضها بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، البابا تواضروس الثاني، لاحتواء الأزمة الحالية، إلا أن جهوده ذهبت أدراج الرياح مع الإعلان عن محاولتي انتحار من رهبان داخل الدير.الخلاف التاريخي الموجود في الدير يعود إلى عقود، وهو يتمحور حول صراع بين مدرسة الأب متّى المسكين التي تمثّل التيار الإصلاحي، وبين مدرسة البابا شنودة المعروفة بالمدرسة التقليدية.
البابا شنودة سبق أن حاول السيطرة على ذلك الخلاف، لا سيما بعد وفاة الأنبا متى المسكين، وذلك بإرسال رهبان تابعين له للإقامة فيه، فخلق صراعاً بلغ ذروته على النحو الذي تفجّر إلى العلن خلال الأيام القليلة الماضية.
وفي السنوات التي سبقت رحيل الأنبا المسكين كان الخلاف على أشده بين المدرستين، وكان مسرحه الوحيد والأبرز دير أبو مقار الذي عرف استقلالاً إدارياً وفكرياً عن الكنيسة الرسمية، ما دفع البابا شنودة إلى توجيه الانتقادات لرهبان الدير علناً في عظاته، علماً أن جميعهم كانوا يرتدون ملابس مختلفة عن بقية الرهبان التابعين للكنيسة، فيما حظرت كتابات رهبان الدير على بقية الأديرة والكنائس.
سابقة مقتل الأنبا أبيفانيوس، والتي تشير جميع الدلائل إلى أن قاتله من داخل الدير وليس خارجه، دفعت النيابة العامة إلى التحرّك، طالبة للمرة الأولى تشريح الجثمان لتحديد ما تعرّض له من إصابات أدت إلى الوفاة، كما سمحت للمحققين بدخول الدير ومعاينته من الداخل، وتفتيش المناطق المختلفة التي يمكن أن تفيد التحقيقات.
علاوة على ذلك، فقد تمّ التحفّظ على بعض الرهبان، وجرى التحقيق معهم داخل الدير لساعات طويلة، ومن بينهم الراهب فلتاؤس المقاري الذي استمر التحفظ عليه أياماً عدّة داخل أحد المباني التابعة للدير.
الخلاف في الدير يتمحور حول صراع بين مدرسة الأب متّى المسكين ومدرسة البابا شنودة


البابا تواضروس سارع بدوره إلى الإعلان عن تجريد فلتاؤس المقاري من رهبنته، وإعادته إلى اسمه «العلماني»، موقعاً القرار بخط يده، وذلك في استجابة لطلب سابق من رئيس الدير المقتول قبل أشهر، إلا أن الكنيسة رفضت الربط بين قرار التجريد من الرهبنة وتورط فلتاؤس في عملية القتل التي تقول جهات التحقيق إن تحديد القاتل فيها لن يكون سهلاً مع غياب كاميرات المراقبة داخل الدير، وصعوبة تحديد هوية الشخص الذي ارتكب الجريمة، خصوصاً أنه أظهر دقة عالية في تفقّد تفاصيل موقع الدير وتحركات أبيفانيوس بشكل جيد – إن لم يكن نفسه على دراية قديمة بتلك التفاصيل - ما جعله ينفذ عملية القتل في شكل احترافي.
وتعوّل النيابة العامة في التحقيقات على بعض التضارب في أقوال الشهود، ومن خضعوا للتحقيقات من الرهبان كشهود، من دون أن يتم توجيه لأي منهم تهمة القتل. هذا التعويل يرتبط ببداية انكشاف خيوط جديدة يسير فيها التحقيق في شأن مدى الخلافات الموجودة داخل الدير بين الرهبان، والتي بدأت تقود إلى مزيد من التفاصيل.
ومع ذلك، تتجه النيابة العامة إلى عدم إصدار أي قرار بحق أحد الرهبان، قبل إبلاغ البابا تواضروس، وهي خطوة ضرورية، ليس بحكم القانون، الذي لا يمنع مثول الرهبان أمام جهات التحقيق، وإنما بحكم العرف الذي يفترض بموجبه أن يصدر البابا قراراً بتجريد من يُتهم في أي من الجرائم من رهبنته، قبل توجيه الاتهام العلني له من قبل القضاء المصري، وذلك حفاظاً على هيبة الرهبنة.
هذا العرف اعتمد في وقائع عدة، وآخرها ما حدث مع عدد من رهبان وادي الريان، الذين تم تجريدهم بسبب خلافهم مع الدولة، ورفضهم الامتثال لقرارات الكنيسة في شأن حدود الدير ومساحته. ويعكف البابا خلال الفترة الحالية على دراسة حلول عدة للأزمة القائمة، من بينها اتخاذ قرارات بوقف الرهبنة لمدة عام، وتشكيل لجان خاصة، وإغلاق الصفحات الخاصة بالرهبان على مواقع التواصل الاجتماعي. هذه القرارات ليست في الواقع سوى بداية لخطة إصلاح يخشى التيار المحافظ في الكنيسة القبطية أن تؤدي إلى تراجع نفوذه. ويخشى محيطون بالبابا أن يمتد ما يحدث في دير أبو مقار إلى أديرة أخرى، خصوصاً أنّ النيابة العامة اطلعت على أوراق عدة في الدير، لم يكن يسمح بالإطلاع عليها في السابق، ومن بينها تعاملات مالية لا تخضع للرقابة من أية جهة، باعتبارها تخص اقتصاد الكنيسة، الذي لا توجد به أية أرقام واضحة أو معايير شفافة. البابا تواضروس أصدر كذلك قراراً كنسياً بعدم الحديث إلى وسائل الإعلام في شأن ما يجري، فيما أجرى اتصالات عدة مع المعنيين بالأزمة القائمة، وذلك في إطار سعيه لاستصدار قرار من الجهات المختصة بحظر النشر في القضية، تجنباً لتفاقم الأوضاع خصوصاً مع تكرار أحاديث متباينة في شأن محاولات انتحار الرهبان.
المؤكد أن الأزمة أكبر من خلاف داخل الدير بين رهبانه، وهو ما ظهر على صفحات عديدة في مواقع التواصل الاجتماعي بوضوح وتسبب في نقاشات وصدامات حادة خلال الأيام الماضية.
هذه النقاشات وإن كان معظمها أتى مؤيداً البابا تواضروس ومواقفه لإنقاذ الكنيسة من محنتها، إلا أنها قد لا تتفق في المستقبل القريب مع القرارات الكنسية المرتقبة، والتي يرى كثيرون أنها ستكون بمثابة «ثورة» داخل الكنيسة القبطية... فهل ينجح في تمريرها كما يريد؟