القاهرة | «لماذا سيتخلى العسكريون عن الحكم في مصر؟»... بدا من صيغة هذا السؤال أنه أمر مؤكد وحتمي. السؤال الذي عنون مقال الروائي والكاتب المصري عز الدين شكري فشير، في موقع «مدى مصر» قبل أيام، أثار موجة عالية من الجدل، ما بين مؤيّد يستند إلى تاريخ كتاباته التي أنصفته أكثر من مرة، لتثبت أنها ليست مجرد افتراضات خيالية، وأبرزها روايته «باب الخروج» (2011)، التي تحققت العديد من تنبؤاتها حرفياً خلال سنوات تلت صدورها، وما بين معارض يراها مجرد تنبؤات خيالية رومانسية حالمة.ومع ذلك، فإنّ الفكرة متماسكة وتحتاج إلى التوقف عندها لبرهة. في الواقع، يرفض فشير في مقالته الاستسلام لفكرة عدم تخلي الجيش عن حكم مصر في المستقبل المنظور، بل يقدّم افتراضاته التي يخلص منها في النهاية إلى أن العسكريين بمن فيهم الرئيس ذو الخلفية العسكرية عبد الفتاح السيسي، سيتخلون عن الحكم قريباً «مفسحين المجال لبداية عملية تحول ديموقراطي حقيقي، في مقابل احتفاظهم، ولسنوات طويلة، باستقلالية في إدارة شؤون القوات المسلحة، وبصوت مسموع في القرارات الاستراتيجية».
وفي خضمّ ذلك الجدل بين مؤيّد لما طرحه فشير، وقائل إنه صاحب «خيال خصب» يطلب الأمنيات على هيئة تنبؤات، برزت خطوة لافتة للانتباه، سرعان ما رُبطت بمقال الروائي والدبلوماسي المصري السابق، تمثلت في إقرار مجلس النواب بشكل مبدئي قانوناً تقدمت به الحكومة، تُمنح بموجبه حصانة وامتيازات لعدد من كبار ضباط القوات المسلحة ممن يختارهم رئيس الجمهورية، وهو قانون ينتظر اكتمال نصاب الثلثين لإقراره نهائياً.
توقيت القانون وسرعة إقراره صبّا في مصلحة فشير، فقد وصل مشروع القانون إلى البرلمان صباح الاثنين الماضي، ولم يمرّ بدورة طويلة أسوة بأي قانون آخر، بل ناقشته لجنة مشتركة من لجان الدفاع والأمن القومي، والتشريعية والدستورية، والخطة والموازنة، والعلاقات الخارجية، وأقرت مواده في اليوم التالي، مع تعديل وحيد من قِبل لجنة الدفاع والأمن القومي، تمثلت في زيادة مدة الحصانة.
لم يلقَ القانون أية معارضة إلا من النائب عبد الحميد كمال، عضو «تكتل 25 – 30»، الذي لفت إلى أن مشروع القانون يميز فئة بعينها عن غيرها، قبل أن يحسم رئيس البرلمان علي عبد العال الجدل بالقول إن القانون لا يميز أحداً، بل يقدم تكريماً لأولئك الذين «ضحوا بأرواحهم»، مستشهداً بالقوانين التي صدرت بعد حرب أكتوبر عام 1973 لتكريم ضباط القوات المسلحة.
القانون الذي حظي بالموافقة المبدئية في أقل من 24 ساعة، يتضمن ستّ مواد، تقضي الأولى بأن يحدد رئيس الجمهورية قائمة بأسماء كبار ضباط القوات المسلحة المخاطبين بالقانون ليُستَدعَوا لخدمة القوات المسلحة طوال حياتهم، فيما تمنح المادة الثالثة رئيس الجمهورية حق تحديد الامتيازات التي يتمتع بها هؤلاء الضباط، بينما تمنح المادة الخامسة الضباط المختارين حصانة من الملاحقة القضائية على أي فعل ارتكبوه أثناء تأديتهم لمهمات مناصبهم أو بسببها، إلّا بإذن من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وذلك خلال المدة بين تعطيل العمل بالدستور من 3 تموز عام 2013، وحتى تاريخ انعقاد مجلس النواب الحالي في 10 كانون الثاني عام 2016.
وبحسب المادة السادسة، يتمتع الضباط المشمولون بهذه الامتيازات، أثناء سفرهم خارج البلاد، بالحصانات الخاصة المقررة لرؤساء وأعضاء البعثات الدبلوماسية طوال مدة خدمتهم. الجدير بالذكر أن مصطلح كبار الضباط، لم توضع له أي محددات أو معايير سوى أنهم مختارون من قبل رئيس الجمهورية.
حازم حسني: السيسي لن يترك الحكم إلا تحت ضغوط قوية تجبره على ذلك


وذهب مراقبون إلى اعتبار أن هذا القانون يُعَدّ بمثابة باب الخروج الآمن للقيادات العسكرية، كإعلان واضح عن نيتهم التخلي عن الحكم قريباً، وفتح المجال للتحول الديموقراطي.
الأستاذ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، د. حازم حسني، يختلف مع ما طرحه فشير، ويستبعد ربطه بما ورد في المقال، إذ يقول لـ«الأخبار» إنّ الهدف من وراء وضع قانون «كبار الضباط»، يتمثل إما بالإسهام في لعب دور العصا والجزرة لترويض كبار القادة إذا ما فكر أحدهم يوماً في الترشح لمنصب الرئاسة، وإمّا أنه إجراء احترازي إذا ما استجدت معطيات أجبرت النظام العسكري على الرحيل.
في المقابل، يستشهد بعض المؤيدين لنظرية فشير بتصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي، التي لمّح خلالها بشكل قاطع بأنه لن يترشح لولاية ثالثة في عام 2022، مشيراً إلى أنه ملتزم فترتين رئاسيتين مدة الواحدة منهما أربعة أعوام، ومؤكداً عدم مساسه بنص الدستور المصري الذي يسمح للرؤساء بشغل مناصبهم لفترتين.
هذا النفي، جاء في الوقت الذي تثار فيه ما بين الحين والآخر اقتراحات لتعديل الدستور لمصلحة بقاء الرئيس لمدد رئاسية إضافية من قِبل عدد من النواب والسياسيين والإعلاميين. أحد هؤلاء، هو النائب البرلماني إسماعيل نصر الدين، الذي صرح بتقديمه قانوناً لتعديل الدستور، وتمديد فترة حكم الرئيس إلى ست سنوات بدلاً من أربع. وجاء التصريح متماشياً مع تلك التصريحات التي أدلى بها رئيس مجلس النواب علي عبد العال والتي قال خلالها: «هناك مواد في الدستور تحتاج إلى إعادة نظر لأنها غير منطقية... والدستور الذي يتم وضعه في حالة عدم استقرار، يحتاج إلى إعادة نظر بعد استقرار الدولة»، وذلك خلال ترؤسه مناقشة رسالة دكتوراه في كلية الحقوق بجامعة المنصورة.
وكانت شرارة المطالبات بتعديل الدستور قد انطلقت من قبل رئيس مكتبة الإسكندرية والسياسي البارز د. مصطفى الفقي، الذي أكد أن تحديد ولاية حكم الرئيس في الدستور بثماني سنوات على فترتين رئاسيتين، هي فترة قصيرة جداً ولا بد من زيادتها. إثر ذلك، جاءت دعوة مماثلة على لسان الإعلامي عماد الدين أديب، الذي رأى أن الدستور ليس نصاً مقدساً، مطالباً بضرورة تعديله بما يضمن لرئيس الجمهورية الاستمرار في المنصب، ضارباً المثل بجمهورية الصين الشعبية التي عدلت دستورها لتصبح مدة الرئيس مفتوحة «مدى الحياة».
في هذا الإطار، يشكك حازم حسني، الذي دعم رئيس الأركان الأسبق الفريق سامي عنان للرئاسة قبل أن يُقبَض عليه في قضية مخالفة التقاليد العسكرية وتزوير المحررات الرسمية، بصدق تصريحات السيسي، معتبراً أنها تشبه سابقاتها بعد الثلاثين من حزيران 2013، بتأكيده عدم الترشح للرئاسة، لا بل يرى أن السيسي سيفعل كل ما في وسعه، إذا ساعدته الظروف للبقاء في الحكم لسنوات طويلة قادمة، ومحذراً من أن «الاعتماد على النيات في هذا الشأن هو رهان خاسر».
في المقابل، ثمة سبب مهم يسوقه أصحاب الرأي المرجح لقرب تخلي الجيش عن السلطة، هو تلك التعديلات الجوهرية التي يجريها الرئيس بين القادة، والتي جاءت غالبيتها من دون مناسبة أو سبب واضح، وكان آخرها إقالة الفريق صدقي صبحي من منصبه وزيراً للدفاع ضمن التشكيل الوزاري الأخير، وتعيينه مساعداً لرئيس الجمهورية لشؤون الدفاع، وتعيين الفريق محمد زكي محله، الذي كان يشغل منصب قائد قوات الحرس الجمهوري إبان حكم الرئيس المعزول محمد مرسي.
التطور اللافت جاء يوم 18 كانون الثاني عام 2018، حين أصدر السيسي قراراً جمهورياً بتكليف اللواء عباس كامل، بتسيير مهمات المخابرات العامة، خلفاً للواء خالد فوزي، بعدما شغل كامل منصب مدير مكتب السيسي منذ أن كان رئيساً للمخابرات الحربية، وبعدما صار وزيراً للدفاع ثم رئيساً للجمهورية.
أما التغيير الصادم للجميع، فتمثل في إعفاء الفريق محمود حجازي (صهر السيسي) بشكل مفاجئ تماماً من رئاسة أركان الجيش، وتعيين الفريق محمد فريد حجازي، أمين وزارة الدفاع سابقاً والقائد الأسبق للجيش الثاني، بدلاً منه.
وانقسم الرأي العام حول تلك التغييرات، فالبعض رأى أن نية الرئيس ذي الخلفية العسكرية هي النهوض بالمؤسسة، من طريق ضخ دماء جديدة فيها، والتعامل أفضل مع الأوضاع في سيناء، بينما رأى آخرون أن السبب سياسي في الأساس، خاصة أنه مع إقالة صدقي صبحي يكون السيسي قد تخلى عن جميع من شاركوا في «30 يونيو»، سواء بإسناد مناصب شرفية لهم، أو إقصائهم من المشهد تماماً.
لكن حازم حسني يؤكد مجدداً أنه لا توجد نيّة من الأساس لدى الرئيس أو نظامه في انتهاج أي شكل من أشكال التحوّل الديموقراطي، ولا حتى الاكتفاء بـ«ديموقراطية» حسني مبارك، مرجحاً أن السيسي لن يترك الحكم إلا تحت ضغوط قوية تجبره على ذلك، وهي قد تكون إما ضغوطاً داخل المؤسسة العسكرية، أو ضغوطاً إقليمية ودولية، أو ضغوطاً تتعلق بانكشاف النظام بالكامل، لكن ذلك لن يكون إلا من خلال المؤسسة العسكرية.
«الواقع السياسي نفسه مهترئ للغاية، خاصة بعدما نجح الرئيس المصري في وأد وتحييد أي نشاط سياسي»، يوضح حازم حسني، مؤكداً أن النظام الحالي لن يسمح بأية مشاركة مدنية في الحكم، ما يشي بأن لا أمل في أي تحول ديموقراطي في مصر، إلا من خلال نماذج كموسى مصطفى موسى الذى يسعى ـــ تحت رعاية النظام ـــ لتكوين جبهة معارضة تؤيد الرئيس ونظامه وسياساته، لافتاً إلى أنها الصورة الوحيدة التي يقبل بها السيسي لـ«ترقيع النظام برقعة مدنية» يخاطب بها العالم الخارجي كما فعل في الانتخابات الرئاسية.
ويرى حسني أن مؤسسات الدولة العميقة تفتتت لمصلحة الجيش في عهد السيسي، ولكنه لا يستطيع الجزم بالمدى الذي وصل إليه هذا التفكك، متسائلاً: «هل بقيت جذور للدولة العميقة أعمق من أن يصل إليها السيسي؟ وإلى أي مدى سيتحمل الجيش تبعات هذه الاستراتيجية إذا ما أثّرت سلباً بتماسك الجيش وقدرته، وبصورته في نظر أبنائه من القيادات الوسطى والدنيا؟»، مستدركاً بأن كل هذه تساؤلات قد تجيب عنها الأشهر القليلة المقبلة.
سيناريوهات عديدة مطروحة في مصر حالياً بشأن طرق الوصول إلى الديموقراطية التي طال انتظارها، خاصة مع سيطرة المجهول. لكن السجال الأخير أظهر أن البعض ما زال يعتقد أن هناك ضوءاً في آخر النفق، برغم يأس الكثيرين من الوصول إلى الديموقراطية المنشودة وحلم تداول السلطة في وقت قريب... فهل يفعلها السيسي ويهب المصريين الديموقراطية ليخلِّده التاريخ برغم كل ما حدث؟