أمام مسألة حياة أو موت لا يمكن النظر إلى صمامات الأمان، التي تضمن أوسع تماسك وطني، كخيار يستغنى عنه، أو يستبدل بغيره. بقدر خطورة أزمة مياه النيل، التي من المنتظر تفاقمها بعد تشغيل «سد النهضة» الأثيوبي من دون التوصل إلى أي اتفاق بشأنه، يكاد يكون ذلك التماسك ضرورة وجود لمنع أيّ اهتزازات عنيفة لا تحتملها مصر المنهكة.وصلت أزمة السد الأثيوبي إلى طريق مسدود باعتراف وزير الخارجية المصري سامح شكري، ومن غير المحتمل تسوية الأزمة في أي وقت قريب.
ارتفعت نبرة الاحتجاج على استهلاك الوقت، الذي تتبعه أثيوبيا، من دون أن تسندها سياسات جديدة تصحح الأخطاء المتراكمة في إدارة الملف الحساس حتى وصلنا إلى حافة الخطر الداهم. بنظرة على المشهد السياسي المضطرب في أثيوبيا المرجح أن تمضي إلى مزيد من التشدد والمراوغة بأيّ مباحثات مقبلة حتى تجد مصر نفسها أمام سد ملء وأمر واقع حدث.
لأثيوبيا الحق في التنمية حتى تخفف من وطأة الفقر المتفشي ولمصر الحق في المياه حتى تضمن القدرة على إنتاج الغذاء لمواطنيها.
المعادلة صحيحة وبسيطة، لكن تعترضها أوضاع اضطرابات وصراعات قبلية واجتماعية وسياسية في أثيوبيا أضفت على «سد النهضة» أهمية تتجاوز الحق في التنمية إلى ضرورات بقاء الدولة نفسها باصطناع عدو يوحدها وراء مشروع عليه درجة عالية من التوافق.
مصر ليست عدواً لأثيوبيا ولا أثيوبيا عدو لمصر، لكنه التوظيف السياسي لمسألة يسهل حلها في الظروف الطبيعية. جرى توظيف الأوضاع والأخطاء المصرية لمقتضى المضي في مشروع السد من دون اهتمام يعتد به لأي حقوق في مياه النيل.
لم يكن الرئيس الأسبق حسني مبارك متنبهاً بدرجة كافية للمشروع وأخطاره. تابع خطواته الأولى واستقصى المعلومات الفنية من مصادر متعددة، رفض التوقيع على «اتفاقية عنتيبي» لدول حوض وادي النيل خشية المس بحصة مصر التاريخية من مياهه، ولوح باستخدام القوة العسكرية، لكنه لم يبن أيّ استراتيجية متماسكة تتوقع مستويات الخطر وتعمل على تجنبه.
بعد «ثورة يناير» وظفت الحكومة الأثيوبية اضطراب المرحلة الانتقالية للتعجيل بمشروع السد من دون أي استعداد للنظر في أي تقارير دولية، مثل تقرير منظمة الأنهار الدولية الذي دعا إلى إيقاف بنائه لحين استكمال الدراسات الضرورية.
في فترة الرئيس الأسبق محمد مرسي، بدا الأداء بدائياً وعشوائياً. وقد استخدمت السلطات الأثيوبية المؤتمر الذي عقده في قصر الاتحادية للتشهير بمصر داخل أفريقيا، فهي دولة تتآمر لإثارة النزاعات الداخلية وتعمل على رشى الجماعات المتمردة وتهدد بعمل عسكري قبل الدخول في أي تفاوض.
مصر ليست عدواً لأثيوبيا ولا أثيوبيا عدوٌ لمصر


بأثر ذلك النوع من الأداء، مالت السياسة المصرية تحت رئاسة عبد الفتاح السيسي إلى إبداء قدر أكبر من الحذر، فيما ينشر ويذاع والرهان في الوقت نفسه على تبادل المصالح والتعاون الإقليمي، غير أنه اصطدم بالحقائق الأثيوبية من دون أن تكون هناك استراتيجية قادرة على حفظ الحقوق المائية للبلد لا تستبعد خياراً واحداً.
في جميع جولات التباحث والتفاوض التي جرت، لم يلتزم رئيس الوزراء السابق هايلي ماريام ديسالين، بأي مسار فني جرى التوافق عليه، ولا باتفاقية الإطار التي وقّعها بنفسه في الخرطوم مع الرئيسين المصري والسوداني، لأسباب داخلية دعته لتوظيف الأزمة، غير أن الاضطرابات كانت أكبر من أن تحتوى.
لا أحد، تقريباً، يتوقع أن يبدي خلفه أبي أحمد علي، أيّ مرونة في ملف الأزمة، والأغلب أنه يكون أكثر تشدداً على الخط ذاته. هكذا، فإن الخطر الداهم تقترب مواعيده وصمامات الأمان في غير مكانها، غائبة أو معطلة.
من بين صمامات الأمان وضع الرأي العام في كامل الصورة حتى لا تفاجئه أيّ تطورات محتملة. الإخفاء كارثة بقدر الامتناع عن التصحيح والاعتراف بمواطن الأخطاء في إدارة الأزمة. الصراخ الإعلامي لا يفيد، كما المبالغة في أحاديث التفاؤل من دون سند.
إذا كان التفاؤل حقيقياً وفق تصريحات المسؤولين عن الملف، فلماذا إعطاء أولوية عاجلة لإنشاء محطات تحلية مياه بالبحرين الأحمر والمتوسط والتوسع في معالجة الصرف الصحي والزراعي والصناعي؟
باليقين، تعاني مصر من فقر مائي، حتى لو لم تتضرر حصتها الحالية من مياه النيل، وهذه المشروعات لها أهميتها وضرورتها، لكنها ليست أولوية في اللحظة الحالية إلا إذا كان مستقراً داخل مؤسسات القرار السياسي أن أزمة المياه واقعة لا محالة. لا يجب استبعاد السيناريو الأسوأ حتى تكون اليقظة كاملة، شرط إبلاغ الرأي العام بالحقيقة والخطوات التي يجب اتباعها.
عندما تتفاقم الأزمات ليس بوسع أحد إخفاء الحقيقة، التي سوف ينظرها الناس العاديون في شح المياه وانخفاض منسوبها في نهر النيل.
بالتبعية، سوف تنخفض على نحو غير مسبوق حصة الفرد من المياه، وربما يحدث شيء من التصحر في الأراضي الزراعية الحالية وتتوقف أي رهانات على استزراع أراض جديدة، فيما الزيادة السكانية ترتفع إلى معدلات قياسية.
هناك ضرورات تقتضي ترشيد المياه والمواطن العادي هو المعني مباشرة، وهذا موضوع مصارحة بالحقائق ودعوة كل من له خبرة أن يجتهد ويساهم في إيجاد حلول ممكنة.
إذا لم تكن هناك سياسات جديدة ترشد ما تستهلكه منتجعات الأثرياء من مياه، فإن عقاب من يزرع الأرز أو أي محاصيل أخرى تتطلب رياً كثيفاً سوف يكون أمراً عبثياً وداعياً لاضطرابات محتملة. عدالة توزيع الأعباء والتضحيات مسألة حاسمة في مثل هذه الأوضاع الصعبة.
بالقدر نفسه، فإنّ رفع رواتب الوزراء وكبار المسؤولين والامتناع عن أيّ زيادة في المعاشات قررتها أحكام قضائية مشروع تذمر يصعب معه الحديث عن تماسك وطني في لحظة حرجة تقترب بأكثر مما نتوقع.
من أخطر ما قد يحدث، بتداعيات أزمة المياه مترافقة مع زيادات متوقعة في الأسعار وانخفاض في مستويات المعيشة على نحو لا يحتمل، أن تتمركز الجماعات الإرهابية من جديد في بيئة احتقان تساعدها على تقويض أي استقرار.
العدالة الاجتماعية صمام أمان يصون الدولة ويحفظ حياة مواطنيها وأملهم في المستقبل. توسيع المساحات المشتركة، بتعبير الرئيس نفسه، صمام أمان آخر، لكنه معطل.
إذا لم تفتح شرايين الإعلام للحوار والتنوع والحق في الاجتهاد والاختلاف ويرد اعتبار السياسة ويفرج عن الشبان المظلومين خلف جدران السجون حسب الوعود الرئاسية والمحبوسين احتياطياً بغير محاكمة، فإن الكلام عن أي تماسك وطني يفقد حرمته ومعناه.
من صمامات الأمان الضرورية تصحيح العلاقات مع القارة الأفريقية. لا بد من أن نعترف بأن المشكلة تتعدى أثيوبيا إلى القارة، رغم الجهود التي تُبذل في ترميم العلاقات بعد سنوات طويلة من الجفاء والتنكر لقضاياها وشواغلها، إلا أن ما هو مبذول يقصر عما هو مطلوب.
إذا غابت صمامات الأمان، فكل احتمال وارد وكل فوضى ممكنة. هذه حقيقة ينبغي الالتفات إليها والعمل بمقتضى ضروراتها الوجودية.
*كاتب وصحافي مصري