من يقرأ التقرير السنوي لمركز الدراسات الجنائية، يلاحظ أن غالبية القضايا داخل المحاكم المصرية، تتعلق بقضايا الحشيش، علماً أنّها ليست من النوع الكبير، بل تخصّ كميات تافهة. لعلّ السبب أنّ الحشيش عرفٌ اجتماعي وأحد أدوات اللهو المقبولة في الاجتماع المصري وأكثرها تداولاً من ناحية، ولكنّه مُجرّم قانوناً وتستخدمه «السلطة الشرطية» (سلطة البوليس) في التضييق اليومي على عموم الناس وجعلهم عرضة دائمة للاشتباه من ناحية أخرى. في هذا النص دعوة إلى محاولة النظر في الحشيش وبعض المخدرات الأخرى لناحية موقعها في عمليات الإنتاج والاستهلاك ودورها في تشكيل الاجتماع والصراع داخله، وما يدور حول ذلك لجهة إدارة السلطة واقتصادها السياسي لعمليات اللهو ككل داخل المجتمع، وعلاقة القانوني بالاجتماعي والسياسي، وتشابكها ضمن هذه المساحة... ففي محصلة الأمر، يمكن أن تروي لنا المخدرات قصة أخرى عن علاقات السلطة وتشابكات الاجتماع في مصر.حين نتحدث عن الحشيش، فإمّا هو حديث عن اللهو والمرح، أو حديث طبي عن مخاطر المخدرات والإدمان، أو حديث ديني عن الحلال والحرام. ما يغيب عن النقاش دائماً هو سؤال السلطة وكيفية إدارتها لجانب من الاجتماع المصري، وذلك من خلال كشف هذه المنطقة في حياة أغلب الناس ومساءلتها. فموضوع المخدرات والحشيش مهم لفهم جوانب من الصراع الاجتماعي وتغيّر أنماط الاستهلاك والسلوك في مستويات معينة في مصر، وصعود فئات وتجارة على حساب غيرها، وتحسّن أوضاع مناطق واستقرارها أو اضطرابها على المستوى الاجتماعي.
للدولة المصرية تاريخ طويل في خلق وضع غير قانوني وتركه للمساومات


لم تشتهر مصر بكونها مُصدِّراً للحشيش، بل مستورداً، علماً أنّه في عهد محمد علي، كانت هناك بعض المحاولات لزرعه، وبعض المؤرخين مثل المقريزي يشيرون إلى وجوده في مراحل متقدمة من التاريخ المصري. يرجع هذا الأمر إلى الطبيعة الجغرافية في مصر التي لا تسمح بازدهار أشجار (نباتات) القنب الهندي لتبلغ ارتفاعات معينة تسمح بإنتاج الحشيش من زهرته العليا. لكنّ منطقتي الشرقية وجنوب سيناء، تُعدّان من مناطق زراعة أشجار القنب القصيرة التي، من خلال زهرتها السفلى، يُنتَج ما يُعرَف بـ«البانجو». ليس المطلوب هنا شرح عمليات الإنتاج أو الدخول في التفاصيل الحيوية لزراعة المخدرات، ولكن الهدف هو ربط الأمر بالاستهلاك المحلي، وبالعلاقات الاقتصادية ــــ الاجتماعية التي يجري غزلها من خلال عمليات الإنتاج والاستهلاك، وعلاقة هذا بطبيعة كل منطقة وبالمنطق الاقتصادي المهيمن عليها.

«حشيش» الساحل الشمالي: عامل استقرار واضطراب وتهميش
في مصر، وربما في مناطق أخرى من العالم، يصل الأمر إلى أن تُمثِّل المخدرات جانباً من الاقتصاد السياسي لناحية القدرة على تحدّي غياب الوظائف والأعمال. الساحل الشمالي مثلاً، يعيشُ على «الغفرة» (وهي إتاوة تُفرضُ على أصحاب القرى السياحية والممتلكات العقارية والأراضي، مقابل الحماية، وتتضمن الغفرة أيضاً أن يجلب أبناء المنطقة مواد البناء والمؤن)، كما يعيش أبناؤه أيضاً على العمل ضمن القرى السياحية في الصيف. هنا نحن نتحدث عن اقتصاد ريعي قائم على تهميش الدولة للسكان المحليين وسحق دمجهم في عملية تنموية واسعة.
يغيب عن هذا المنطق أسئلة عدة: ما هي طبيعة التنمية؟ وكيف أثّرت بحياة الناس هناك؟ وما هي جدواها الحقيقية؟ فنحن أمام أكثر من 400 كيلومتر مصري على الساحل حُوِّلَت إلى مدن أشباح، باستثناء أشهر الصيف الثلاثة. في قلب هذه العملية، يأتي الحشيش و«الغفرة» كأهم مكونات الاقتصاد السياسي للمنطقة، مع القليل من زراعات التين البرشومي. لا وجود لأي مصادر أخرى للدخل، ولا عملية إنتاجية قائمة، بسبب استراتيجية الدولة والبرجوازية التنمويّة هناك، وهو ما أدى إلى غياب أي فرصة لاستيعاب أعداد كبيرة من الناس. لذلك، يُنشئ بعض أبناء المنطقة ما يُسمى «جمعية مركب»: مجموعة أفراد من أبناء عائلة ما، يدخلون في ما بينهم ضمن جمعية ماليّة لجلب «سفينة حشيش»، لأنّ الحشيش هو أكثر أنواع التجارة ازدهاراً هناك طوال العام، ويقوم بالتخديم أيضاً على مدينة الإسكندرية.

«تجارة الصنف»

تاريخياً، ارتبطت مناطق شعبية، وأبطالُها، بتجارة الصنف، وذاع صيتها عند المجتمع وكانت محوراً للصراع مع السلطة، أو للتماهي معها وللإدارة المشتركة. فتقريباً إلى تاريخ اتفاقية مونترو 1937، كان الأجانب، تحديداً اليونانيين ثم الإيطاليين، هم البارونات الكبار لتجارة الصنف وفقاً لبعض الإحصاءات الخاصة بالجريمة، وكما يشير المؤرخ عبد الوهاب بكر. ولأنّها تجارة تقوم على شبكة واسعة، فهناك مناطق اشتهرت بكونها معبراً أو مكاناً يتم فيه استقبال البضاعة الواردة، ومناطق للتخزين، وأخرى للبيع والتجارة. هنا تحديداً، نحن نتحدث عن الحشيش (لأنّ ما يُعرف بالمخدرات البيضاء لها سوق آخر، كما أنّها لا تحتاج لمناطق تخزين بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. أما «البانجو»، فهو حالة أخرى إذ يتمُّ انتاجه واستهلاكه محلياً).


المثير في الأمر، غياب أي رؤية مركّبة عن سكان الساحل: على الرغم من الاحتكاك الدائم بين الساحل ومدينة الإسكندرية، لكن ثمة صورة نمطية عن سكان الساحل بأنهم «عرب لا أمان لهم»، يمارسون البلطجة والسطو على الأراضي، وأنّهم مجرد تجار حشيش. جزء من هذه الصورة حقيقي، ولكنها ليست الصورة كاملة. فالمضحك في الأمر أنّ مدينة الإسكندرية هي الأخرى ذات تاريخ طويل في التعامل مع الحشيش، استيراداً واستهلاكاً. وأبناء الساحل ليسوا بلطجية، لأنّ «الغفرة» كانت شرطاً عُرفياً بين الدولة والمستثمرين، والجميع تغاضوا عنها، إذ لا توجد وسائل أخرى للدخل ولإقامة أي شكل من الاقتصاد بعدما تمت إزاحة السكان من أراضيهم ودفعهم إلى «ما خلف الطريق»، أي بعيداً عن الشاطئ، وهم لم يكونوا شركاء في مسار العملية التنموية. وقطاع كبير من عملية الترفيه الصيفي لأبناء الطبقات العليا في هذه المنطقة، قائم على استهلاك الحشيش وقضاء الوقت قبالة البحر.
المعادلة لا تقف عند هذا الحد، إذ إنّ البوليس جزء ضليع فيها. أولاً، بسبب ترسيخ صورة ذهنية قديمة عن «العرب» تصفهم بالتّمرد والخروج على الدولة ومعاداة القانون، وأنهم غير مصريين، ولاحقاً بأنهم تجار حشيش، وأنهم «أعراب لا عهد لهم». تسرّبت هذه الرؤية جيلاً بعد آخر عند ضباط البوليس، ما ولّد مستوى من العنف الشرطي والاشتباه الدائم بأهالي المنطقة (علماً أنّ وطأة هذا الاشتباه على أبناء المنطقة، ليست نفسها على من هم من خارجها). وبالفعل، فطريق الساحل وبالأخص «كمين الضبعة»، يشتهر بالتضييق البوليسي والاشتباه الدائم، وما لم يكن «العربي» شيخ قبيلة أو ينحدر من مستوى عائلي قوي، فهو عرضة دوماً للتفتيش والتضييق وأحياناً للتنكيل. ولكن هل تريد الداخلية منع تجارة الحشيش هناك؟ قطعاً لا، ذلك أنّ الحشيش يُمثِّلُ أحد عوامل استقرار هذه المنطقة. فما يعرفه الجميع من دون أن يتحدث عنه أحد بصراحةٍ، أنّ غياب هذه التجارة سيعني موت هذا الإقليم في ظلّ هذه البنية الاقتصادية وعلاقات الإنتاج وأنماطه. (تكرر أكثر من مرة أن يشير أحد أبناء المنطقة إلى بعض القصور على الطريق قائلاً: «كل القصور دي بنيت من الحشيش، كلنا عارفين ده، والحكومة عارفة ده، بس لازم الأصغر يتبهدلوا في الكماين ويتفتشوا على سيجارة وإلا عشان واحد عين حامرة (من إحمرار العين) شوية، ولازم من حين لاخر تحصل مشاكل بسبب الحملات الأمنية أو دخولهم البيوت والمناطق السكنية بدون مراعاة حرمة البيوت، بس محدش عايز يمنع بجد»).
إذن المطلوب إدارة المنطقة وإخضاعها: إذا تُرك الأمر بالكامل، ستتحرر المنطقة من سطوة الدولة، وإذا أُغلق بالكامل ستموت، وهو ما يعني احتمالية التمرّد. والدولة المصرية لها تاريخ طويل في خلق وضع غير قانوني وتركه حتى يكون هذا الوضع نفسه والترتيب الاجتماعي والسياسي القائم عرضة دائمة للمساومة والتفاوض أو فرصة دائمة للاشتباه والتنكيل والقدرة على القمع الشرطي أو القانوني. ولا ينحصر الأمر فقط في تجارة الحشيش، فمثلاً الأرض التي تُعدُّ هي الأخرى من أهم مصادر الدخل (لكن ليس في أي عملية انتاجية)، والتي غالبية من يمتلكها من «العرب» أباً عن جد، ليست موثقة، ولكن ملكيتها معروفة عبر التاريخ وبالعُرف المتداول في هذه المنطقة.
أمام هذا المشهد، من الغريب عن أوساط المقاولات والمال في مصر، أنّها تتباهى بتجربة الساحل الشمالي العقارية، وتجادل بأنّ بناء القرى السياحية نجح في تدوير فائض القيمة المالية الذي أُتيح عند أبناء الطبقة الوسطى العليا والطبقات العليا في شكل استثمارات عقارية ترفيهية، وأنّ هذا الأمر ساعد في تعمير المنطقة التي كانت بالنسبة إليهم محض صحراء وساحل بحري فقط. هذا مع العلم أنّ البعد السياحي والترفيهي هناك ذو طابع محلي فقط، أي إنّ المنطقة لا تجتذب الأجانب للسياحة الشاطئية.

جنوب سيناء: معادلة الإسفلت والصحراء
لنذهب شرقاً نحو جنوب سيناء الذي تحوّل بعد اتفاقية السلام إلى منطقة سياحية ذات طابع عالمي، وأيضاً أُزيح السكان من المناطق الساحلية لإقامة الفنادق الفارهة والمنتجعات الصغيرة والكبيرة. ولكن ما صيغة العلاقة بين الأهالي والدولة والمستثمرين، التي حكمت المنطقة؟ ببساطة، هي وفق الآتي: «الإسفلت للحكومة، والصحراء لكم»، ولا يُعكِّرُ صفو هذه الصيغة إلا حالات الاضطراب الكبرى التي يجب على الدولة خلالها «الدخول إلى الصحراء». ولكن لنُركّز أكثر على ما هو يومي.
قطاع كبير من الأجانب والمصريين يأتون إلى جنوب سيناء للاستجمام والغوص وتقضية بعض الليالي في الصحراء. وفي الصحراء وعلى الساحل يأتي «البانجو» السيناوي الرفيع المستوى ليلعب دوراً مهماً في اقتصاديات الترفيه واللهو هناك. بمعنى آخر، أبناء المناطق المختلفة هناك تتمحور مصادر دخلهم حول الترفيه: لا شيء آخر ولا أي شكل من أشكال العمليات الإنتاجية؛ فقط اقتصاد خدمي واسع النطاق وهشّ وعرضة دائمة للانكسار إذا حصل اضطراب سياسي أو اجتماعي أو أمني. ولا يملك أبناء هذه المناطق غير الطبيعة التي يعرفونها جيداً ويعرفون ما تجود به من سحر ومُخدِّر «البانجو». إذاً مرة أخرى، يأتي «البانجو» والطبيعة (المُطوَّعة للترفيه) ليُشكِّلا عنصرَي الاقتصاد السياسي لهذه المنطقة. وهنا أيضاً تلتحق بهذين العنصرين «الغفرة»، فلا ينبغي أن ننسى مثلاً أنّ من حمى المستشفى الذي أقام فيه حسني مبارك في شرم الشيخ، كان إحدى القبائل المحليّة.

لم تشتهر مصر بكونها مُصدِّراً للحشيش، بل مستورداً (أرشيف)

لكن معدلات العنف والتضييق الشرطي في هذه المنطقة لا تُقارن بما يجري في الساحل. أحد الأسباب هو العُرف غير المكتوب بين الدولة والسكان المحليين (الصحراء لكم والإسفلت للحكومة)، إضافة إلى أنّ الدخول في علاقات زبائنية مع الدولة والمستثمرين والسكان المحليين جعل المنطقة أكثر استقراراً، ولا أحد يُريد أن يحدّ من دور «البانجو» كعامل مركزي في معادلة الترفيه، ولا أن ينزع مكانته. ولذلك، ينصبُّ العنف الشرطي هناك أكثر على العمالة القادمة من الأقاليم المختلفة، من استهدافه لتجارة «البانجو» أو السكان المحليين. وبالطبع هذا الأمر مرتبط أيضاً بترتيبات إقليمية أوسع من تجارة وزراعة «البانجو» أو اللهو نفسه: على هذه المنطقة أن تكون مستقرة ضمن ترتيبات السلام بعد كامب دايفيد، وأن تتحوّل إلى منطقة سياحة عالمية. هذا «الحظ السعيد» لم يُحالف الشمال (شمال سيناء) الذي تحوّل منذ بداية الألفية إلى معمل لتجارب العنف الوحشي للشرطة، ثم تحوّل بالكامل إلى ساحة حرب مشتعلة بين الدولة والإرهاب من قبل عام 2013. ولكي تحافظ الدولة على الخطوط الفاصلة، فهي تحكم قبضتها إلى حد بعيد على الحشيش الوارد إلى سيناء، ولهذا الأمر عدة أسباب، أهمها أن تظل الدولة قادرة على حصر من في أيديهم هذه اللعبة والتجارة، وإحكام القبضة على السوق ومعرفته، والسيطرة على الذوات المتحركة هناك، وعدم خلط الأسواق وانفتاحها على بعض. ولكن هذا لا يعني أن الأمر متروك بالكلية، فمن حين لآخر تقوم «الداخلية» بشن حملات أمنية كبيرة تنتهي بحرق بعض مزارع «البانجو»، ويرجع هذا لأمرين: الأول هو أن الداخلية في التحليل الأخير مؤسسة بيروقراطية عليها أن تقوم بتسليم عدة قضايا ومجرمين في نهاية العام، أما الأمر الثاني فهو لضبط المنطقة وعدم ترك الأمور بالكلية للمواءمات الاجتماعية.
من ناحية أخرى، تتأثر عملية تجارة المخدرات واستهلاكها وإنتاجها بالاضطرابات الإقليمية والداخلية، وأحياناً قد تُمثّل الحرب فرصة لازدهار التجارة أو انهيارها بالكامل. فإذا كان هناك انهيار لقبضة الدولة، ستزدهر هذه التجارة مثل تجارة الأسلحة، وإذا قادت الحرب إلى مزيد من تغوّل الدولة، فلن يصبح الخط الفارق هو «الصحراء والإسفلت»، بل سيتغوّل الإسفلت على الصحراء.

الحبوب المُخدّرة: تعذيب وجنس ومساومة
عند الحديث عن الحشيش و«البانجو»، لا يجب نسيان الحبوب المُخدِّرة لأنّ استهلاكها والإتجار بها يدخُلُ ضمن شبكة نفوذ كبيرة وعلاقات اجتماعية وشكل معيّن لممارسة السلطة أو ابتزازها. وبسبب طبيعة العلاقات الزبائنية في السلطة المصرية، سيتحوّل بعض الضباط إلى شركاء في هذه التجارة، أو ستقوم المؤسسة نفسها باستخدام بعض شبكات البلطجة والإتجار لمحاربة شبكات أخرى، أي خلق شبكات في مواجهة شبكات، ذلك أنّ التجارة في هذا المجال مرتبطة أيضاً باقتصاد سياسي لإدراة أقاليم بحالها في مصر، وهي أحد عناصر الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها.
لكن لعلّ الأهم على هذا المستوى، هو استثمار هذه الحبوب في منظومة التعذيب، إذ ثمة ارتباط بين مستويات العنف الشرطي والاجتماعي وبين نوعية «البرشام» (الحبوب) الذي يتم تعاطيه. فمثلاً، الاسم الشعبي لأنواع معينة من «الابترايل» (حبوب مهلوسة شديدة المفعول) هو: «أربعة حبس واتنين تجديد»، أو العكس. يتم تعاطي حبتين أو ثلاث عند اقتياد أحدهم إلى الحجز.

لإسرائيل دور...

في الأربعينيات ثم الستينيات حاولت إسرائيل أن تكون مُصدّراً للحشيش ولكنها فشلت نتيجة لخصائص الأرض، فساعدت على تسهيل تهريب الحشيش السوري واللبناني والتركي إلى مصر. وارتبطت بعض المدن الساحلية بالأخص على شاطئ المتوسط مثل الإسكندرية والمعدية، بأنها معابر رئيسية، بالأخص حين كان أغلب استيراد الحشيش يأتي من اليونان.


لكن فلنتوقف أولاً عند ماهية التعذيب نفسه: هو عملية لتدمير الجسد أو إيقاع أكبر قدر ممكن من الألم عليه بغية انتزاع اعتراف ما، أو الإرشاد عن شخص، أو تعذيب شخص بغية التنكيل به وإذلاله، أو التعذيب لفرض السطوة والهيمنة بشكل مجرّد، وهو ما يتحول أحياناً لحالة صافية من السادية والمتعة لدى بعض الضباط. ومصر بلد له صيت وتاريخ طويل مع التعذيب اليومي بغاية الضبط الاجتماعي وليس فقط المعاقبة أو التنكيل بالسياسيين. كما أنّ التعذيب يتعلق بمنظومة أوسع، فهو مرتبط بالذكورية وإذلال عموم الناس و«كسر أعينهم»، خاصةً أنّ التعذيب دوماً ما يرتبط بانتهاكات جنسية مصاحبة. ومع اشتداد الطابع اليومي للعنف الشرطي، بالأخص مع مطلع الألفية، بدأت بعض القطاعات العرضة للتنكيل والاشتباه، من المواطنين العاديين أو المسجلين «خطر» أو الأشقياء، بالاستعداد الدائم لمواجهة التعذيب عبر الحبوب، أي بإفقاد فاعلية الجسد وتدميره وتعطيله بشكل آخر، لمواجهة التدمير والألم الذي يتسبب بهما التعذيب الشرطي. في هذه المعادلة، كانت أجساد المصريين هي الخاسر الوحيد، ولا تزال كذلك، بينما ازدهرت تجارة الحبوب ومن خلفها شركات كبرى وتجار.
في مقابل «الابترايل» المصاحب للصخب والعنف، تزدهر حبوب «الترامادول» في سياقات أخرى، من أهمها الجنس واحتمال ساعات العمل الطويلة والشاقة. في القديم وحتى الآن، اشتهر مُخدِّر الأفيون عند الرجال، وبالأخص في إقليم الصعيد، بالطاقة الجنسية وشدة الانتصاب، واشتهر أيضاً عند سائقي الشاحنات الكبرى إذ يُعطي قدرةً كبيرة على الاستيقاظ ومواصلة القيادة. إلا أن «الترامادول» سيلعب دوراً شبيهاً بدور الأفيون، مع بعض الاختلافات.

إذا ضُيِّق أمنياً على الحشيش، ظهرت الحبوب كبديل للاستهلاك المحلي


لقد أصبحت ساعات العمل في مصر طويلة وغير محتملة، وربما يواصل الفرد ورديتين أو ثلاثاً حتى يستطيع تلبية احتياجاته المادية. وهنا سيظهر «الترامادول» كحل سحري، حتى إنّ بعض الإسلاميين يتعاطونه، بسبب مدد العمل الطويلة وغير الإنسانية. أيضاً، يُستخدم هذا «البرشام» من قبل عمّال الهدم (العمّال الذين قد تلجأ إليهم لهدم غرفة مثلاً). وفي بعض الأوقات، سيصير على الفرد توفير هذه المواد للعمّال حتى يستكمل العمل مجراه (إذا قُمت بالاستعانة ببعض النقّاشين للعمل في شقة، ربما يُطلب منك جلب بعض «الترامادول»).
سوف يظهر أيضاً «الترامادول» في الجنس لدى السيدات. ففي مواجهة تعاطي رجال لأنواع شديدة العنف من الحبوب، سوف يكون هناك احتياج لحبوب مضادة حتى يتم استحمال خشونة الرجال وصلفهم الجلفة وليقلل الشعور بالألم.
أيضاً، كي يُصرّف موقوفو العنابر والسجون (ومنهم إسلاميون جهاديون بالمناسبة) أمورهم مع مأمور السجن وأمناء الشرطة، قد يلجأون إلى «شريط فياجرا». ومسألة «الفياجرا» مضحكة: على الرغم من أنّها شيء قانوني ومتاح في كل الصيدليات، لكن أثناء عمليات التفتيش التي تحدث في اللجان (السجون) أو إذا ما حصلت «كبسة على قهوة» أو «البيه ضابط المباحث حب يمسّي على الناس هو والأمناء بتوعه»، فإذا وُجِدَ مع شخص ما «شريط فياجرا» أو «حباية»، فسوف يتعرض للإذلال وللمساومة، وقد يؤخذ منه «الشريط».

لقد أصبحت ساعات العمل في مصر طويلة وغير محتملة (عن ميديا دافرستي)()

يجب التنويه إلى أنّ ثمة معادلات أخرى في زيادة نمو الحبوب المخدّرة، غير ما سبق. فأحد أسباب ظهورها في بعض الأوقات يرجع إمّا لعوامل اقتصادية أو أمنية: إذا تمّ التضييق الأمني على الحشيش، ظهرت الحبوب كبديل للاستهلاك المحلي، وهو ما حدث في بعض الأوقات. وكان أحد أسباب انتشار كل من الحبوب و«البانجو» في القاهرة في الألفينات، هو التضييق الأمني على الحشيش وارتفاع سعره. لكن ما يحدث في هذه الأيام هو العكس، فـ«البانجو» في القاهرة يتم التضييق عليه أكثر من الحشيش، وربما يرتبط الأمر بعوامل مالية محض مثلما قال أحد الشباب: «كنا بنجيب سيجارتين حشيش بعشرة جنيه أو عشرين جنيه نقضي بيهم الليلة، دلوقتي بنجيب بالعشرين جنيه حباية ونقسمها، وبتقضي الليلة برده».


إفراط في استخدام الحبوب
ثمة إفراط في استخدام «الابترايل» في العراك في المناطق الشعبية والعشوائية، وبشكل خاص استخدام «الترامدول». ففي ظلّ مستويات انهيار اجتماعي معينة، يمكن أن تجد بعض الشوارع في المناطق الشعبية تدخل في حروب طويلة مع شوارع أخرى، وقد تكون أسبابها ذات أهمية، مثل نزاع على التجارة أو المخدرات، وقد تكون لأتفه الأسباب، أو لمسائل متعلقة بالذكورية والشرف. وتشهد مصر مستوى من العنف اليومي داخل المناطق الشعبية والعشوائية عالي الوتيرة، بسقف يصل إلى القتل.
في سياق محلي مثل هذا، هناك احتياج لأشكال مختلفة من المنشطات المغيّبة للعقل، والتي قد تمنح شعوراً بالجرأة في نفس الوقت. وهو بالفعل ما قدمته النوعية الجديدة من الحبوب مثل «الابترايل». والأمر طبعاً مرتبط بعناصر أخرى، مثل الوضع المادي والمالي السيئ، وانهيار أشكال السلطة الانضباطية داخل الكثير من هذه المناطق، وانهيار أشكال القيادة القديمة، والتفتيت الذي حدث لأشكال الهمينة والسطوة (بدلاً من تقسيم النفوذ بين المناطق، أصبح الأمر مفتتاً لدرجة وجود أكثر من زعامة أو شلة من الشباب تتحكم بنصف الشارع وشلة أخرى تتحكم بالنصف الآخر).